ارتبطت عمليات تحديث الحياة فى جميع المجتمعات بتقدم هائل فى وسائل الاتصال، وقد أدت هذه العملية إلى أن تتخلى المجتمعات التقليدية عن وسائطها الاتصالية المباشرة التى تقوم على علاقات أولية بسيطة، وتدخل فى إطار نظم معقدة من الاتصال الجماهيرى الذى يتحول فيه المجتمع إلى جماهير متفرقة تتباين فى أساليب حياتها ونوعيتها، وفى ثقافاتها، وفى الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية التى تمارسها، ولكنها تشترك جميعاً فى إنها جماهير خاضعة للرسائل الاتصالية التى تأتيها من أعلى محملة بكل المضامين التى تجعل هذه الجماهير تتعلق بها. إن هذه الرسائل تتحول - على المدى الطويل نسبياً -إلى أدوات احتكار للعقل الجماهيرى وتسييره على نحو معين. ولقد ساعد على ذلك تطوران كبيران، أولهما يتعلق بتطور نظم الإعلان واستخدامها فى نشر الثقافة الاستهلاكية وحث الجماهير على مزيد من الاستهلاك المادى والبصرى والرقمي؛وثانيهما تطور الإمكانات المهنية للقائمين على شئون الاتصال، مع تعدد وسائل الاتصال فى المجتمع الجماهيرى وظهور أشكال الاتصال الرقمى وانتشارها فى قطاعات أوسع من الناس، فى كل أرجاء العالم. وقد انشغل علماء الاجتماع بهذه القضية خاصةأولئك الذين انطلقوا من مواقف إنسانية وأخلاقية للبحث عن صور لإنقاذ الإنسان المعاصر من المؤثرات السلبية لهذه الأدوات الاتصالية. ولقد كان مفهوم المجتمع الجماهيرى نفسه أحد المفاهيم التى كشفت عن هذه الآثار السلبية، فهذا النوع من المجتمعات يفرض ثقافته الخاصة التى تعرف تفككاً للروابط الاجتماعية التقليدية، وتحويل المجتمع إلى ذرات من الأفراد الذين يسعون -كل بطريقته- إلى تحقيق تفرد واستقلال فى إطار المجتمع العام. وتعمل أدوات الاتصال الجماهيرى داخل هذا المجتمع على المحافظة على هذا الوضع وتدعيمه، بل أنها تعمل عبر تعلق كل فرد على حده بعالم الاتصال، دون أن يكون قادرا على أن يخلق اتصالاً مع الآخرين فى الحياة العملية.فى هذا الظرف يصبح الاتصال الجماهيرى هو الرابط بين البشر، والجامع لهم، والمحرك لمشاعرهم، بل المهيمن على عقولهم. يتحول العقل فى هذا الظرف إلى عقل أسير Captive mind. وكان هذا المفهوم قد استخدم لأول مرة عام 1953 عن طريق المفكر البولندى (الحاصل على جائزة نوبل) تشيسلاف ميلوش Czeslaw Milosz (1911 - 2004) الذى فر من نظام الحكم الاستالينى فى بولندا عام 1951، وصور من خلال هذا المفهوم فظاعة الحكم الفاشى والحكم الديكتاتورى الشيوعى ودوره فى أسر العقل وتحطيمه. ولكن المفهوم أخذ بعداً اجتماعيا أكثر من خلال استخدامه من قبل علماء الاجتماع (كان أول من استخدمه من علماء الاجتماع هو عالم الاجتماع الماليزى سيد حسين العطاس (1928- 2007)، للإشارة إلى الطرق المختلفة التى يتم بها أسر العقل وإخضاعه، والتى تؤشر على صور من تبعية العقل فى البلاد النامية لهيمنة العقل الغربى، ومحاولات أسر العقول من خلال وسائل الاتصال، القادرة دائماً على إن تجعل العقل خاضعاً واسيراً، وأن تحطم ما بداخله من قيم وأفكار وتضع مكانها ما تشاء. وعند هذه النقطة أستطيع أن أطرح الفكرة التى أجادل بهذه المقدمات للدفاع عنها، وهى تتلخص باختصار فى القول بان وسائط الاتصال المعاصرة، بما تفرضه من هيمنة وطغيان، تعمل لا على أسر العقل فقط، بل تعمل على تمزيقه. لاشك أن مقولة العقل الأسير كانت صحيحة عندما كانت المجتمعات تخضع لمصادر واحدة من المادة الاتصالية، ذات ميول أيديولوجية واحدة. ولكن الوضع قد يختلف الآن. فقد أنفرط العقد، فتعددت وسائط الاتصال، لم تعد وسائط جماهيرية فقط، بل أصبحت وسائط اجتماعية تمنح الأفراد القدرة على التواصل الشخصى عن بعد، وهنا وهناك (أقصد فى كلا نوعين من الوسائط) تتعدد الرؤى والأجندات والرسائل، فيبدو الأمر وكأننا فى معركة هدف كل طرف فيها أن يسيطر على العقل. فوسائل الاتصال الجماهيرى تتفنن فى اختراع أساليب اتصالية لجذب أكبر عدد من الجمهور، كما ترشق الناس بإعلانات ترهق عقولهم وأبدانهم، ولا يأتى هذا الرشق الإعلانى عبر الشاشات الصغيرة فقط، بل نصادف تأكيدات له أينما يممنا وجهنا، فى موقف غريب تتداخل فيه الأدوار والصور والعبارات فلا ندرى على وجه اليقين ما إذا كان الشخص الذى يطل علينا لاعب كرة، أو ممثل، أو رجل دين، حيث تتداخل الأمور فيصير كل شيء إلى كل شيء. ومن ناحيه أخرى ينتقل السباق - والعراك على استملاك العقول والسيطرة على أجزاء منها على الأقل- إلى وسائط التواصل الاجتماعى، فنجد التنافس والتشاحن، هذا يشدك إلى عالم السياسة، وذاك يأخذك إلى عالم الدين، وثالث يأخذك إلى عالم الطعام والاستهلاك، ورابع يأخذك إلى عالم المتعة والترفيه، وخامس وسادس، وفى كل نجد أن أول ما يطالعنا هو الإعلان الذى يريدك أن تستهلك قبل أن تستمتع، وأن ترهق عينيك وأذنيك قبل أن تشاهد أو تقرأ أو تسمع، بل إن هذا الرشق الإعلانى سوف يطاردك فى الشوارع سواء كنت مترجلاً أو مستقلاً لسيارة أو حافلة. ماذا عسى أن يكون العقل المستقبل فى مثل هذا الظرف؟ لن يكون فقط عقلاً فردياً منفصلاً كما فى حالة المجتمع الجماهيرى، ولن يكون عقلاً أسيراً فقط يخضع بشكل كلى إلى عالم الاتصال، بل سيكون عقلاً ممزقاً ومنقسماً ومشتتاً بين اتجاهات مختلفة. ولاشك أن هذا الموقف يؤثر تأثيرا كبيرا على الهوية الذاتية والاجتماعية للأفراد، وعلى علاقتهم بمجتمعاتهم كمواطنين، وعلى قدرتهم على التواصل الاجتماعى والتدبر العقلانى، وعلى وجودهم الاجتماعى الذى سوف يتحول إلى وجود قلق ممزق. وأحسب أن لا طريق إلى خروج الفرد من هذا المأزق إلا بقدر كبير من التأمل الذاتى الذى يمكن الفرد من أن يحقق بعض الاستقلال وبعض الوجود الأصيل الذى لا يشوبه تمزق أو قلق. لمزيد من مقالات د. أحمد زايد