تفرض نتائج انتخابات البرلمان الأوروبى نفسها علينا ليس فقط لاعتبارات الجوار الجغرافى، أو بحكم العلاقات السياسية والاقتصادية مع الأوروبيين، ولكن أيضاً لأن هذه الانتخابات تبدو كالترمومتر الذى يقيس درجة حرارة (وربما هذيان) ما بلغته النزعات المتطرفة والانعزالية وتيار رفض الآخر لا سيّما حين يكون هذا الآخر عربياً أو إسلامياً. من هنا أهمية الاهتمام بنتائج هذه الانتخابات من منظور ثقافى وفكرى بالأساس.أصبح الخطاب السياسى والحزبى فى الغرب يدور حول الأفكار والثقافات والهواجس والمخاوف الحضارية بقدر وربما أكثر مما يدور حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية. ولهذا لم تعد أحزاب اليمين واليسار التقليدية هى فرس الرهان ومصدر الاستقطاب ومبعث الإثارة السياسية فى المواسم الانتخابية. اليوم هناك على الشاطئ الآخر من المتوسط صراع جديد تديره أحزاب وتيارات تستخرج من جوف الماضى سرديات عنصرية أدواتها الديين والهوية واللغة والثقافة والتقاليد، وهى ترفض بالتالى كل ما تظنه تهديداً لهذه الخصوصيات القومية سواء كان مصدر التهديد بشراً مثل العرب والمسلمين أو فكرةً مثل العولمة. قد يتماهى رفض الآخر وكراهيته مع ظواهر الهجرة واللجوء إلى الغرب، وبالتالى مع آثارها الاقتصادية المحتملة على المواطن الغربى لكن يبدو أن هذه مجرد ذرائع لأن الغرب، نفسه يظل محتاجاً إلى أيد عاملة أجنبية رخيصة الثمن فى أعمال يدوية وشاقة لا يقبل عليها كثيراً المواطن الأوروبى. فى نتائج الانتخابات الأوروبية للسنوات الخمس المقبلة ما يبعث على الاطمئنان ولو نسبياً، وفيها أيضاً ما يثير القلق، وتشى أخيراً بالمجهول. ما يُطمئن فى نتائج هذه الانتخابات أن تيارات وأحزاب اليمين الشعبوى المتطرف ستمثل أقلية محدودة تدور حول 10% من إجمالى مقاعد البرلمان الأوروبى، وهى نسبة لن تتيح لها ممارسة أى دور تشريعى مؤثر. بالطبع سيكون على باحثى العلوم السياسية تأمل وتحليل تسمية اليمين الشعبوى المتطرف وفرز ما يندرج تحتها من أطياف سياسية وحزبية لمعرفة قدر المشترك والمتغير بين رؤى وسياسات هذه الأحزاب. لكن المطمئن بصفة عامة فى مقابل تحجيم اليمين الشعبوى المتطرف أن الأحزاب الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية ما زالت هى الكتلة الأولى فى البرلمان الأوروبى بنسبة تصل إلى 45%، وهى نسبة يمكن أن تصل إلى 70% بمجرد أن تنضم إليها الأحزاب الأخرى وحزب الخضر. ما يتجاوز الاطمئنان إلى حد التفاؤل هو الصعود النسبى لأحزاب الخضر والبيئة ذات النزعة التقدمية والإنسانية الداعية إلى الحوار والسلام والمتعاطفة مع الأجانب والمهاجرين والتى حظت بسبعين مقعداً بدلاً من 50 مقعداً فى انتخابات 2014. وقد بلغ نجاح حزب الخضر فى ألمانيا حد حصوله على نسبة 22% من الأصوات ليقدم نفسه كأحد أحزاب الأمل الجديد فى أوروبا لا سيّما فى أوساط الأجيال الجديدة، حيث كشفت النتائج أن أحزاب الخضر قد حظت بتصويت واحد من كل ثلاثة شبان فى ألمانيا. يبدو المشهد الانتخابى الأوروبى مطمئناً أيضاً فى دول غرب وشمال أوروبا حيث لم تحقق أحزاب اليمين المتطرف فى أسبانيا والنمسا والبرتغال والسويد وهولندا ما كان الكثيرون يتخوفون منه. لكن ما يثير القلق فى الانتخابات الأوروبية هو التقدم الملحوظ لأحزاب اليمين الشعبوى المتطرف فى بلدان معينة مثل فرنسا التى حلّ فيها التجمع الوطنى أولاً بنسبة أصوات بلغت 23% متقدماً بفارق نقطة واحدة أمام حزب الرئيس ماكرون الجمهورية إلى الأمام. جاء القلق أيضاً وبوجه خاص من إيطاليا التى اكتسح فيها الانتخابات حزب الرابطة اليمينى المتطرف بنسبة 31% من الأصوات ليحصل تيار اليمين الشعبوى العنصرى فى إيطاليا على نسبة 48% من إجمالى التصويت إذا ما أُضيف إليه نتائج حزب الخمس نجوم رفيق العنصرية الذى حصل على 17%. مصدر القلق وربما الخطر الأكبر فى نتائج الانتخابات الأوروبية إنما يأتى من دول شرق أوروبا. هذه الدول التى تمثل الموجة الأخيرة من موجات توسع الاتحاد الأوروبى لا ينكر زعماؤها وساستها معاداتهم الصريحة وبمصطلحات عنصرية فجّة للأجانب والعرب والمسلمين، وهى معاداة عقائدية وثقافية فى جوهرها وليست مجرد مواقف سياسية أو اقتصادية. تجلّى هذا القلق فى بلدين مثل المجر التى حصل فيها اليمين الشعبوى المتطرف على 52% من الأصوات، وبولندا التى حصل فيها الحزب المحافظ ذو النزعة العنصرية على 42% من الأصوات. يبقى المجهول فى المشهد الأوروبى مسكوناً بالتساؤلات. فأوروبا تبدو فى هذه الانتخابات الأخيرة وكأنها تتشظى وترتد العديد من دولها (والأخطر مجتمعاتها) على القيم الحضارية والسياسية التى يجسدها الاتحاد الأوروبى مهما كان الرأى فى هذا الاتحاد الأوروبى ككيان سياسى. تكاد أوروبا اليوم تتحول إلى ثلاث أوروبات. الأولى أوروبا الأنجلوسكسونية متمثلة فى بريطانيا التى حصل فيها حزب »بريكزت« الداعى إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى على 32% من الأصوات. لا نعرف على وجه التحديد ما هى الوجهة السياسية المقبلة لحزب بريكزت الانعزالى وهل سينتهى دوره بمجرد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى أم أن وجوده الحزبى سيتواصل كقوة سياسية جديدة تعبر عن نزعة يمينية متطرفة فى الروح البريطانية التى ألفناها تاريخياً رصينة وهادئة؟. أما أوروبا الثانية فتضم دولها التقليدية مثل فرنساوألمانياوأسبانياوإيطاليا وبلجيكا وهولندا وباقى دول الشمال الأوروبى، وهى دول الثقل السكانى الأوروبى الأكبر (300 مليون نسمة من 500) ورمانة الميزان وعصب المشروع الأوروبى، وبدونها ينفرط العقد الأوروبى ويذهب اليورو أدراج الرياح. تبقى أوروبا الثالثة التى تجمع دول الشرق مثل بولندا والمجر والتشيك، وهى دول كشفت أو اضطرت لأن تكشف فى الانتخابات الأخيرة عن نفورها من القيم الحضارية والسياسية التى لم تترسخ بعد فى وجدانها الاجتماعى ولا المؤسسى، على الأقل مقارنةً بنظيراتها الغربية. ولهذا تنامت فيها أحزاب اليمين العنصرى المتطرف بوتيرة تدعو إلى الخوف. فى النهاية هل تنجح مسيرة الاتحاد الأوروبى وسط هذه الأمواج الداخلية المتلاطمة بخلاف المنغصات الخارجية التى يثيرها الرئيس الأمريكى ترامب؟ وكيف ستدير أحزاب اليمين العنصرى شئونها ومعاركها ليس فقط مع الأجانب والمهاجرين ولكن ابتداء وأساساً مع متطلبات دولة القانون؟... فى الإجابة قدرٌ من المجهول الذى ينتظر أوروبا. لمزيد من مقالات د. سليمان عبدالمنعم