أزعم أن كلمة تنمية تستدعى عند الكثيرين، بل قل عند الأغلبية، من البشر معنى اقتصادياً، والسعى إلى حياة أكثر رفاهة وترفاً، وقد عقد فى روما خلال شهر سبتمبر 2015 مؤتمر حول التنمية شارك فيه أكثر من مائة دولة ورجال ونساء من مختلف الأديان، ومفكرون من المهتمين بشأن التنمية من أنحاء العالم، ومن أهم ما جاء فى هذا المؤتمر حوار ونقاش حول تنمية ماذا؟ ولمن؟ ومن ثم خرجت التوصيات تنادى بأن يؤخذ فى الحسبان أهمية التنمية الأخلاقية بجانب الاقتصادية. ونقطة الانطلاق اكتشاف قيمة الإنسان كل إنسان، فهو ليس كائناً اقتصادياً وحسب، بل هو كائن أخلاقى فليس من المعقول أن يسعى إلى مزيد من الرفاهة دون أن يسعى أيضاً إلى السمو فى الأخلاق، فليست غاية التنمية توفير حياة مادية مستقرة تلبى حاجات الإنسان وغرائزه الجسدية بل من صميم أهداف التنمية الإنسانية الأخلاقية والروحية ، فليس الإنسان حزمة غرائز بل هو أيضاً كائن يسعى لإشباع جوعه الروحى. لقد سادت منذ فترة طويلة وربما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فكرة اقتصادية، وشغل العالم بقضايا الاقتصاد حتى وصل إلى ما يعرف اليوم بقانون السوق، أو بمعنى أسهل بقانون كل شيء له ثمن، وقد أدى هذا التيار المندفع إلى الإسراف فى استنزاف موارد الطبيعة حتى تحولت مجتمعات كثيرة إلى أسواق إنتاج أو إلى أسواق استهلاك، وغرق العالم فى بحر من المتع، أو قل غلب عليه الاهتمام بالبعد المادى، وانحسر تيار القيم الروحية والأخلاقية التى دونها ينهار كيان الفرد والأسرة والمجتمع، ويكاد يصبح الإنسان عبداً لسوق الاستهلاك، مما أصاب حضارتنا المعاصرة بعرج روحى، وإن كان كيان الإنسان يضج بالغرائز الصاخبة الجامحة فإن فى أعماقه كيانا آخر فى عطش حاد للمعنى وللجوهر لهذه الحياة وللمصير بعدها، فإن الغرائز الطبيعية الجسدية مشتركة بينه وبين الحيوان والطير، وما يجعل الإنسان إنساناً ليس تنمية جسده فقط بل تنمية عقله وروحه، وهو أمر يتميز به عن باقى المخلوقات، ومنذ الطفولة ينبغى أن يتعلم الإنسان أن للمال قيمة كذلك للصدق، والأمانة والنبل قيمة عظيمة ، فلم يولد الإنسان ليأكل ويتناسل ويموت ومن ثم تقتصر التنمية على إشباع هذه الغرائز، بل يولد الإنسان وفى نسيج كيانه بذور روحية سامية، وغريزة للترقى، لأن الحياة ليست فوضى أو عبثاً بل هى دعوة من الخالق لكل إنسان حى ورسالة مقدسة ليجاهد لتكون حياته أفضل. والإنسان ليس لقيطاً فى الفضاء بل حياته لها معنى، ومصيره إلى خالقه، لذلك فشلت كل المبادئ والمذاهب والبدع التى ترى فى الإنسان بعضاً من الطبيعة المادية، كما فشلت تلك التى تحتقر الحياة وكيانه الروحى، ومن ثم فالتنمية الأخلاقية قوام للاقتصادية وأن الصراع المحتدم بين الدول والشعوب ليس صراعاً اقتصادياً كما يبدو على السطح، بل هو فى حقيقته صراع حول قيمة الشخص البشرى وحقوقه فى الحرية والعدالة والمساواة، وهدف التنمية بجناحيها الاقتصادى والأخلاقى أن تبنى إنسانية الإنسان. إن كل أمة على الأرض لها رصيد هائل من التجارب الحضارية والدينية والأخلاقية، ومهما بدت هذه القيم قديمة أو من الماضى كما يظن البعض، فإن الإنسان هو الإنسان فى الماضى والحاضر والمستقبل، وصناعة مستقبله تتطلب التعمق فى تاريخ البشرية لاكتشاف عظمة هذا الإنسان التى وهبها له خالقه، وروعة هذه الحياة التى تستحق أن نحياها بكل شجاعة وأمانة وعطاء لاكتشاف ثراء أمنا الأرض وتدفق خيراتها وجمال الطبيعة فيها. إن الإنسان فى حاجة إلى الغذاء نعم، ولكنه فى حاجة أشد إلى أن يفكر ويعرف. لمزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته