اصطف الجند لتحية الوداع، ودقت الطبول العسكرية ومر أمامهم الجسد الطاهر مدثرا بعلم مصر، فصاح كبيرهم سلااااام سلاح، فسلمت القلوب والعيون والعقول قبل البنادق والسلاح على القائد الغالى الراحل إلى عالم الخلود. مر شريط العمر سريعا، منذ ما يزيد على نصف قرن، يوم توقفت امتحاناتنا بالجامعة، فقد تعرضت البلاد لعدوان غادر. استكملنا الامتحانات وتخرجنا فى الجامعة ومرارة الهزيمة تطغى على فرحة التخرج. جاء تكليفنا من كليات الهندسة أقسام الكهرباء وكليات العلوم أقسام الفيزياء لنلتحق بفرع الصواريخ المضادة للطائرات فى مدرسة المدفعية فى سلاح الدفاع الجوي. قائد المدرسة العميد حلمى عفيفى، وقائد فرع الصواريخ الرائد مصطفى الشاذلى وأركان حرب الفرع النقيب فاروق طوبار ومجموعة متميزة من الضباط المعلمين كانوا فى استقبالنا. دخلنا إلى عالم جديد، حيث شهدنا كيف تتحول العلوم النظرية إلى تطبيقات عملية تحمى سماء الوطن درسنا الدوائر الكهربية، وتعلمنا كيف ندير منظومة الدفاع الصاروخى فى تكامل مدهش. الدراسة كانت مكثفة والتدريبات متوالية تصل الليل بالنهار,عملا لا قولا، يتابعها مصطفى الشاذلى عن قرب، فعندنا اختبارات أسبوعية يعلن نتيجتها ويناقشها معنا ونحن مجتمعون، يشجع المتفوقين ويحاول مساندة المتعثرين، أحسسنا به جنديا صاحب رسالة قبل أن يكون قائدا عسكريا ينفذ الأوامر، ووجدناه إنسانا مرهفا يشعر بآلام الناس ويعمل على تخفيفها فدخل قلوبنا وسكن بها. تخرجنا فى فرع الصواريخ لنلتحق بالوحدات المقاتلة ونشتبك فى حرب فعلية، كبدت العدو خسائر فادحة رغم تفوقه فى المعدات، وآمنت بأن الفارس وليس الفرس هو ما يصنع النصر، وظهر جليا أن المقاتل الجامعى قد شكل طفرة نوعية فى أداء الجيش المصري. استشهد منا زملاء أعزاء، أولهم عصام عبد الرحيم، ولحقه آخرون. ودارت ملحمة حرب الاستنزاف التى شارك فيها أبناء مصطفى الشاذلى الذى انتقل قائدا على جبهة القتال وأبناء الفريق حلمى عفيفى الذى أصبح قائدا لقوات الدفاع الجوي. وأذكر أننى ذهبت يوما لزيارة العميد مصطفى الشاذلى فى غرفة العمليات بموقعه الجديد فى الفرقة التى يقودها، وجاءت لحظة اشتباك، فوجدت أسدا جسورا يصيح فى الضباط والجنود كل يدير مهمته بإتقان، تراجع الهدف منحسرا فكانت اللحظة الوحيدة التى تبادلنا فيها كلمات التحية. تدور الدنيا ونتباعد فأذهب إلى بريطانيا لاستكمال دراستي، وأتابع أصداء حرب العبور، تدمع عيناى وأنا أشاهد على شاشة التليفزيون الإنجليزى جنودنا البواسل يعبرون القناة ويهتفون الله أكبر. أعود إلى الوطن وأتسلم العمل بالجامعة، أجد ذات يوم طالبا جالسا فى الامتحان بهندسة الإسكندرية، اسمه أحمد مصطفى الشاذلي، أتابعه عن بعد، وأحمل نتيجة الامتحان إلى الوالد، فيشكرنى ويشدنى إلى صدره ليقبلنى لأول مرة فى معرفتنا الطويلة. تمر السنون وتتغير الأحوال، ويصبح الفريق مصطفى الشاذلى قائدا لقوات الدفاع الجوي، ثم سفيرا لمصر فى ليبيا، ثم يعود مستقرا فى الإسكندرية، أجلس معه فى شرفة شقته المطلة على حديقة نادى الإسكندرية الرياضى فأسمع منه حكايات عن لقاءات مع رؤساء وحكام ومسئولين فى أوقات حرجة، فأسأله إن كان يفكر أن يكتب شهادته للتاريخ، فينظر إلى دون أن يعلق، فأعلم من نظرة عينيه أنه لن يفعل. تتقاعد دفعتنا الذين خاضوا الحرب شبابا مقاتلين ورجالا قادة لكتائب الدفاع الجوى وألويته، فقد أصبحوا الآن شيوخا، أو تحولت مساراتهم الوظيفية، ولكنهم يحافظون على روابط المودة، فيلتقون شهريا فى دار الدفاع الجوي، ومرة فى كل رمضان على مائدة الإفطار فى منزل اللواء وائل الخفيف فى حلمية الزيتون، يحكون الحكايات والذكريات والمواقف والطرائف، وأسأل هل يطوى النسيان فرقة الضباط الذين شكلوا يوما العمود الفقرى لكتائب الصواريخ وشكلوا المظلة الواقية لسماء مصر، فالعدد يتناقص فى كل لقاء رمضاني، وتتساقط أوراق الخريف فما بالك بجذع الشجرة القوي. ولكن هذه هى سنة الحياة، فحين أنظر إلى الأبناء والأحفاد لزملاء الدفعة أرى أشجارا جديدة تنبت، وأوراقا جديدة تزدهر على الشجر. يمضى العمر ويشهد القائد عيد تحرير سيناء قبل رحيله عن الدنيا بثلاثة أيام، ولعله استرجع ذكريات شارك فيها قائدا ومقاتلا ومعلما لكى يرفرف علم مصر على آخر بقعة تم تحريرها من الأرض المصرية قبل ثلاثة عقود. وينتهى شريط الذكريات لأنادى بصوت المودع :سلااااام سلاح. ------------------ أستاذ بجامعة الإسكندرية لمزيد من مقالات د . شريف قنديل