فى تسجيل مرئى هو الثانى من نوعه منذ إعلان قيام دولة الخلافة فى 2014، ظهر أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش، نهاية الشهر الماضى فى شريط يحمل عنوان: «فى ضيافة امير المؤمنين»، يعلن فيه الهزيمة العسكرية لتنظيمه فى آخر معاقله فى سوريا ويعلن معها نهاية مرحلة الدولة وبداية مرحلة عنوانها استمرار الجهاد، وحرب الاستنزاف ضد الأعداء، من خلال عمليات إرهابية فى مختلف أنحاء العالم، ما يعنى العودة الى نهج التنظيم الأم، تنظيم القاعدة. فى التسجيل المرئى الأول فى 2014، ظهر أبو بكر البغدادى واقفا منتشيا بالانتصار وهو يلقى خطبة الجمعة على منبر مسجد النورى الكبير فى الموصل، معلنا عن إقامة دولة الخلافة وتنصيب نفسه خليفة للمسلمين. وفى ظهوره الأخير ظهر البغدادى وهو يفترش الارض فى مخبئه ورشاشه إلى جانبه، لكن ورغم الهزيمة فقد بدا واثقا قويا، يبعث رسائل تعزز الروح المعنوية لدى مقاتليه وأنصاره، ويطمئنهم على قوة التنظيم واستمراريته، ويؤكد قيادته وسيطرته، ليس فقط على بقايا التنظيم فى العراقوسوريا، ولكن على أتباعه فى كل مكان، من الجماعات المتعاطفة والولايات المزعومة. وبين التسجيلين مرت خمس سنوات تصدر فيها تنظيم داعش أخبار العالم، بعدما استطاع فى وقت وجيز استقطاب أكثر من 30 ألف مقاتل، من القارات الخمس, وهو رقم يفوق جيوش بعض الدول السيادية, واستطاع احتلال ارض تقارب مساحتها مساحة بريطانيا، وفرض نظامه المتشدد على ما يقارب 7 ملايين شخص، وصدم العالم بأحكامه الوحشية التى تنوعت بين القتل والذبح والحرق والسبى وغيرها. ومع هزيمة التنظيم العسكرية، تكون مرحلة الدولة قد انتهت جغرافيا، لتدخل بعدها مرحلة المنظمة، التى أسس لها البغدادى هيكلا تنظيميا وأيديولوجيا وتمويليا، وحدد لها هدفا يتمثل فى خوض حرب استنزاف ضد اعدائه وضربهم فى عقر دارهم، وهذا ما أكده البغدادى فى الشريط الاخير، وهو نفسه ما سبق وعبر عنه فى تسجيل فى 28 سبتمبر 2017، بعنوان: «وكفى بربك هاديا ونصيرا»، والذى اقر فيه بإعادة هيكلة التنظيم، مؤسسا بذلك نمطا من الحرب الجديدة التى ترتكز إلى مبدأ الاستنزاف وتكتيكات حرب العصابات. من هنا، قد يكون من المبكر جدا الادعاء بأن تنظيم داعش قد انتهي، وان كان قد خسر كل الاراضى التى كان يسيطر عليها. فمشروع التنظيم لا يزال قائما، وان كان قد غير من خططه واسلوبه. وجيوبه لا تزال قائمة وتنتظر فقط فرصتها لإعادة بناء قدراتها، منتظرة فى ذلك انفجار آخر للهوية السنية فى ظل تنامى الطائفية وغياب العدالة والديمقراطية، ومستغلة الانشقاقات والفراغات المستقبلية فى العراقوسوريا بعد قرار سحب القوات الامريكية؛ كما فعل سابقا بين العامين 2009 و2012، أى فى الفترة الممتدة بين هزيمته التكتيكية كتنظيم, الدولة الإسلامية فى العراق، وإعادة بروزه فى أبريل 2013 تحت مسمى الدولة الإسلامية فى العراق والشام. أضف الى ذلك، ان التنظيم لا يزال قائما ويتمدد فكريا, فالأيديولوجيا التى أسس لها على مدى سنوات سوف تحتاج الى عقود من اجل فك الارتباط معها؛ وها هو يحث أتباعه اليوم على الانتقام فى كل مكان. وقد أكد البغدادى هذا التوجه فى تسجيل صوتى بعنوان: «وبشّر الصابرين» فى 22 أغسطس 2018، قائلا إن: ميزان النصر أو الهزيمة عند أنصاره ليس مرهونا بمدينة أو بلدة سلبت، وليس خاضعا لما يملكه مملوك من تفوق جوى أو صواريخ عابرة للقارات أو قنابل ذكية. ودعا أنصاره فى الدول العربية والغربية إلى القتال وشن هجمات بكل الطرق الممكنة. إن تنظيم داعش لا يزال داخل المعادلة وليس خارجها، فهو اليوم، على الاقل، أقوى مما كان عليه عقب هزيمته الأولى فى 2009. صحيح أنه لن يستطيع استعادة قوته وفرض سيطرته بالامتداد والسرعة نفسهما كما فعل فى 2014، لأسباب عديدة لا يسع المجال لذكرها هنا، لكن هذا لا يمنع من القول إنه لا يزال مؤهلا لخوض مرحلة جديدة من الحرب، بطرق وتكتيكات ربما ستكون اكثر ابتكارا وأوسع استهدافا من كل ما سبق، خاصة أن الاسباب التى ادت الى ظهور التنظيم لاتزال موجودة، والحواضن لاتزال منتشرة وفى اكثر من مكان سواء فى العراقوسوريا او اليمن وليبيا وأفغانستان... والرقعة لا تزال فى اتساع. وكما استطاع تنظيم القاعدة ان يتحول من مجرد تنظيم يضم بضع مئات من المقاتلين فى أفغانستان، إلى قواعد تضم عشرات آلاف المقاتلين، وتنتشر عنقوديا فى كل مكان، بحيث لا تكاد تخلو اليوم بقعة من العالم الإسلامى من وجود فرع له، فإن فروع تنظيم داعش، ومؤيديه، وخلاياه النائمة، وذئابه المنفردة سوف تنتشر، أيضا، فى كل مكان، ولا أحد يمكن ان يتوقع متى وكيف وأين ستنفذ عملياتها وتنتقم لهزائم تنظيمها. وهذا هو السيناريو الأسوأ. لمزيد من مقالات وفاء صندى