ينبغى أن تمتلك قوى الثورة والتغيير فى السودان الشقيق وعيًا تامًا بخلفيات وأبعاد كل موقف وقرار تتخذه, فالواقع معقد ومتشابك والحرية غالية وهناك من يصل للشاطئ الغلط نتيجة التقدير الخاطئ والقناعات المخادعة. هناك من يتربص فى الداخل ومن الخارج لسرقة الحراك الشعبى وتوجيهه لتحقيق مصالح وتحاشى هزائم وسقوط، وهناك من سيطرح نفسه مستفيدًا من تنظيمه وتمويله الجيد وتوغله فى المؤسسات والهيئات على مدى ثلاثين عامًا من الحكم الدينى السلطوى كشريك بل وكطليعة للحراك، بينما الشريك الموثوق به والطليعة الحقيقية هم مكونات وأطراف الجماعة الوطنية دون سواهم ممن يتمتعون بانتماء حقيقى للسودان وأرضه وشعبه، لا من فرط فى الثروات والأرض والمصير لقوى الاستعمار الحديث بغية مد عمر بقائه فى السلطة. مهمة السودانيين جميعًا أكثر تعقيدًا وصعوبة، وتحتاج القدر الأكبر من الحنكة والتدرج والصبر لفك الارتباط بين السياسة والدين، ولتستعيد المؤسسة العسكرية كامل عافيتها واستقلاليتها لتتمكن من العبور بالبلاد من الفترة الانتقالية والتحول للدولة الوطنية المدنية بسلام وبأقل الخسائر. مؤسسة الجيش هى التى استجابت للشعب وعزلت البشير بما يمثله من رمزية للفساد والاستبداد الدينى الخادم لأهداف جماعة الإخوان ورعاتها الإقليميين، وليس هناك سوى الجيش يمكن الاعتماد عليه لتحقيق أولويات المرحلة الحالية وتتلخص فى أمرين رئيسيين؛ الأول قيادة المرحلة الانتقالية وصولًا لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية وإعادة بناء مؤسسات الدولة المنتخبة دون السقوط فى فوضى وفراغ أمنى ودستورى أو وقوع اقتتال نتيجة تضارب المصالح والرؤى والهويات بين مختلف القوى فى الشارع من خارج المؤسسة العسكرية، فقيادة الجيش للمرحلة ليس معناها تسليمه السلطة وإنما تكليفه بإتاحة فرص التغيير وتحقيق مطالب الشعب دون أن تراق الدماء، والثانى هو حماية البلاد من الأطماع الخارجية، فخلال هذه المرحلة سيكون الطامعون الإقليميون وأدواتهم فى الداخل فى ذروة نشاطهم وتآمرهم لأن ما خسروه ومما سيخسرونه مستقبلًا ليس هينًا سواء أحلام الثروة والنفوذ أو خسارة تلك الدولة ذات الأهمية الإستراتيجية الفائقة والمؤسسات التى ظلوا يخترقونها وينسجون خيوطهم بها على مدى ثلاثين عامًا.ألا يسمع الثوار والمعتصمون هتافات الإسلام السياسى والسلفيين ودعواتهم للتظاهر، هذا نذير بأن التيار الذى يملك التنظيم الجيد ويتحصل على التمويلات مستعد لاستغلال الفجوة بين الجيش وطليعة الثورة، ويتجهز من الآن لتكون نتيجة أى استحقاق انتخابى يجرى على عجل لصالحه اعتمادًا على مقدرته على الحشد، لتصبح النتيجة نزولًا على رغبات التغيير المتعجل ووفق مخرجات الديمقراطية الإجرائية الشكلية المخادعة هى استبداد دينى جديد ونظام فردى شمولى هادم لما تبقى من مظاهر الدولة فى السودان. إذا استمر الثوار والنخبة المدنية السودانية فى التشبث بالتحول السريع الإجرائى دون الصبر على إحداث جوهر التغيير المبنى على عملية تفكيك وتحديث وتنوير ضخمة، فعليهم من الآن تحمل مسئولية خدمة الواقع الحالى للإخوان ومجمل التيار الدينى المتشدد، وإذا كانت جماعة الإخوان بالماضى قد استولت على السلطة عبر خديعة أتقنها البشير والترابى، فستصعد مجددًا عبر خديعة إجرائية تتوارى خلف مظهر الديمقراطية دون جوهرها؛ فعادة لا يذهب إلى الصناديق أكثر من أربعين بالمائة من إجمالى السكان ممن لهم حق التصويت فى أفضل الأحوال، وبالنظر لمقدرة جماعات الإسلام السياسى على الحشد والتنظيم فى مواسم الانتخابات، فليس صعبًا عليهم ضمان تصويت أغلبية من تلك الأقلية التى خرجت للإدلاء بصوتها اعتمادًا على العصبية الدينية والطائفية ليضيع حلم الدولة المدنية الوطنية, فإلى الآن وحتى أعوام قادمة ورغم السقوط لا تزال جماعة الإخوان والفصائل السلفية فى السودان تفوق القوى المدنية حشدًا وتنظيمًا. على ثوار السودان إدراك أهمية وضرورة المرحلة الانتقالية, فهى التمهيد التأسيسى لبناء الدولة الجديدة، وبدونها بما تشمله من تفكيك وعزل سياسى وفكرى لجماعات التطرف لن يستطيع غالبية الشعب التمييز بين الغث والسمين، ولن يختار نوابه وممثليه فى السلطة على أساس سياسى من منطلق الكفاءات والخبرات، ما يجعله عرضة للوقوع مجددًا فى فخاخ التيارات الطائفية الإقصائية.لكى يستكمل السودانيون ثورتهم فى مسارها الصحيح عليهم الاحتماء خلف الجيش الضامن لحدوث التغيير السلمى المتدرج دون إراقة دماء وتقاتل بين الأطراف متضاربة المصالح والانتماءات، وعليهم التعاون لخلق كيان مدنى وطنى موحد متسق الوجهة يقرر الديمقراطية فى نهاية المطاف ويتحمل مسئولياتها وتبعاتها. وعليهم بذل الجهد السياسى والفكرى والتنويرى لتتاح للبسطاء المقدرة على التفريق بين الدين وجوهره ومفاهيمه الصحيحة فى مقابل تأويلات التيارات المتطرفة والتكفيرية، ولتغليب رؤى جيل معنى بالإجابة عن أسئلة النهضة والاشتغال على تأسيس مفهوم المواطنة بالمعنى المدنى الحديث، قاصدًا الحفاظ على وطن يتسع لكل أبنائه، وهو ما يحرم القوى الخارجية من فرص العبث بالداخل عبر استغلال كيانات وأحزاب هشة متفرقة ومؤدلجة ومتنازعة الاتجاهات. لمزيد من مقالات هشام النجار