المحروسة تتألق بأنوار وزينات تتراص فيها نجوم ومثلثات وفوانيس ورقية عكف على صناعتها ومدها من بيت لآخر صبية وشباب، ربما لا يدركون أنهم بمثابرتهم وولعهم بتزيين حوارى وأزقة المحروسة بأوراق ملونة وأعواد بوص، حولتها مهارة وسرعة أناملهم لأشكال فنية، يحيون تقاليد جدود الجدود ويؤكدون أن الجينات الثقافية المصرية لا تزال باقية وتتحدى كل عوامل النحر والتعرية والأنواء التى تطاردها بلا توقف..الأكثر من ذلك أن هذه الزينات اليدوية التى تعتمد على عناصر البيئة المصرية تقف صامدة أمام مصنوعات وافدة بلا روح ولا هوية لأنها وإن استخدمت موتيفات البيئة ووظفت عناصر الحدث أو الاحتفالية، عجزت عن أن تدرك المغزى الكامن فى كل واحد منها أو التاريخ الذى وراءها، فحولت الهلال لكتلة معتمة مُصمتة والفانوس لدولاب مظلم لا يصلح إلا للخزين!! .. ومعنى الكلام «كما يقول شاعر الربابة» أن الحكاية أكبر من شكل تم تقليده أو تقليعة لا تمت بصلة لما قبلها أو تؤسس لما يأتى بعدها، لأنه مجرد شكل بلا روح ولا تاريخ يروى أصل الحكاية!!..وكان يا ما كان فى زمن خلت طرقاته من كل وسائل الإضاءة التى نعرفها الآن، كان على من يغامر بالخروج فى ظلمة الليل أن يحمل مشعلا تحول فى مرحلة أخرى لمشكاة أو فانوس يضيء له الطريق ويحميه من شروره سواء تجسدت فى إنسان أم حيوان.. وعن ارتباط الفوانيس بمواقيت إقامة الشعائر فى رمضان تحكى صفحات التاريخ أن الزمزمى فى مكة كان يرخى طرف حبل فى يده يتدلى منه قنديلان كبيران من فوق مئذنة المسجد إعلاناً لحلول وقت السحور. وتروى المراجع التاريخية أن أول من قام بمهنة المسحراتى فى مصر هو الوالى عتبة بن إسحاق سنة 832 هجرية، وكان يسير على قدميه من مدينة العسكر فى فسطاط مصر القديمة وحتى مسجد عمرو بن العاص تطوعا وهو ينادى..«عباد الله تسحروا فان فى السحور بركة». ويروى المؤرخون أنه حين وصل المُعزّ لدين الله إلى مشارف القاهرة ليتخذها عاصمة لدولته وكان ذلك فى رمضان 362 هجرية 972 ميلادية، خرج أهلها لاستقباله بالمشاعل والفوانيس وهتافات الترحيب ومن يومها ارتبط الفانوس برمضان وأُضيفت لوظيفته الأصلية مهمة الترفيه، وبات مظهرا احتفاليا بشهر رمضان عندما استدعى الوجدان الشعبى من مخزونه التاريخى أغنية من أغانى الاحتفاء بالقمر والليالى القمرية تتغنى بجمال القمر وجعلها تحية خاصة بهلال شهر رمضان، ليصبح الفانوس وأغنية «وحوى يا وحوى إيوحه»، موتيفة ثقافية يرددها أبناء الألفية الثالثة مثلما فعل أجدادهم فى زمن المعز لدين الله.. ويحكى السمار أن مسحراتى مصر القديم غالبا ما كان يصاحبه طفل أو طفلة ممسكا بمصباح لإفساح الطريق له وهو يردد نداءاته المميزة «اصحى يا نايم وحد الدايم» وينشد الابتهالات والمدائح النبوية وهو ينادى على سكان الحى ليستيقظوا لتناول طعام السحور فيما يردد نداءاته المتميزة «اصحى يا نايم وحد الدايم.. رمضان كريم» ثم يقول: أسعد الله لياليك يا فلان ويذكر اسم صاحب المنزل ويردد الدعاء له ولأهل بيته. هذا هو رمضان مصر وفانوسها الذى ظل على مر العصور حالة احتفالية ليس لها مثيل وكان نوره دليلا وميقاتا وشاهدا على ميلاد هلال رمضان وتحولات قمره، فهل فيما نراه اليوم من فوانيس وأهلة مُصمتة معتمة ما يشى بأى من حكايات هلال وفانوس رمضان أو وظائفه؟!عفوا سادتى الكرام الأمر ليس مجرد حرفية فى تقليد فانوس رمضان وهلاله أو توفير للسعر والمستلزمات المعتادة لصناعة الفوانيس، أو شحنة وافدة صنعها حرفى يحمل جينات ثقافية مختلفة، نستسهل بيعها وتداولها بحجة التجديد!!.. فيوم نجرد الفانوس أو أى موتيفة ثقافية من تاريخها ووظيفتها نودعها ونودع معها كل ما ارتبط بها واختزنه الوجدان الجمعى..الحكاية سادتى تاريخ وذائقة ثقافية لا يمكن التضحية بهما من اجل بدعة أو بضعة جنيهات.. لمزيد من مقالات سناء صليحة