منذ بدء المسيرة الأصعب للخروج من الاتحاد الأوروبى يوم 23 يونيو 2016، أضيف إلى تاريخ بريطانيا كثير من «الأيام التاريخية». من بين هذه الأيام ثلاثة كتبت بحروف الشقاق فى واحدة من أعرق ديمقراطيات العالم. الأول هو الاربعاء العشرون من مارس 2019، حيث وقفت تيريزا ماى أمام الكاميرات من داخل مقرها فى 10 داوننج ستريت لشكوى البرلمان إلى الشعب و«تحريضه» قائلة إنها فى صف الشعب، الذى صوت على الخروج من «بريكست» لكن نوابه ليسوا كذلك لأنهم لم يؤيدوا اتفاقها مع الاتحاد الأوروبى على الخروج. الثانى هو، اليوم التالي، الخميس الذى شهد قمة أوروبية عادية سيطرت عليها أزمة «بريكست». وفيه تحدثت المملكة المتحدةلبريطانيا العظمى بألسنة كثيرة لدرجة أن شعبها لم يعد يعرف المتحدث الحقيقى باسمه.
بعد 3 أيام، أقدم البرلمان على تصرف سياسى غير مسبوق يوم 25 مارس بانتزاع قيادة إدارة أزمة «بريكست» من الحكومة ليعكس «الوضع الديمقراطى الطبيعي» للسلطتين التشريعية والتنفيذية. بعد «التحريض على البرلمان» شهد يوم القمة الأوروبية إعلانا عن «الحرب الأهلية السياسية» التى فجرها مشروع «بريكست». فبينما كان زعماء دول الاتحاد ال 28 يعقدون قمتهم العادية، اكتظ قطار يورو ستار الشهير بوفود بريطانيا التى تدفقت على بروكسل، كل يخطب تأييد الاتحاد للمساعدة فى الخروج من الأزمة التى توشك أن تتحول إلى كارثة: رئيسة الوزراء تيريزا ماى ومستشاروها، زعيم المعارضة جيرمى كوربين وبعض أعضاء حكومة الظل، تشاك أومونا وزير الأعمال والإبداع والمهارات فى حكومة الظل العمالية سابقا والمتحدث الرسمى باسم مجموعة المستقلين البرلمانيين حاليا، ونايجل فاراج، زعيم حزب «استقلال المملكة المتحدة» السابق وأحد أكبر قادة حركة الطلاق من الاتحاد الأوروبي. الأولى ذهبت تلتمس طلب تأجيل موعد الطلاق من 29 مارس إلى 30 يونيو 2019. الثانى حمل ما يقول إنه مخرج من الأزمة الحالية، والثالث يزعم أن لديه حلا أنجع يرضى كل الأطراف فى بروكسلولندن. والرابع، يواصل الحشد فى بروكسل ضد أى تأجيل ل«بريكست» حتى لو اقتضى الأمر الطلاق دون اتفاق، رغم الرعب، خاصة الاقتصادي، من التوابع.
توقيعات كالمطر مع كل هؤلاء، أمطر أكثر من 6 ملايين شخص موقع الالتماسات بالبرلمان بالتوقيعات على التماس بوقف عملية «البريكست» برمتها. وبلغ الإقبال حدا أربك الموقع، فتعطل لساعات، ثم عاد إلى العمل ليواصل استقبال مزيد من التوقيعات. يقول نص الالتماس «الحكومة دأبت على الزعم بأن الخروج من الاتحاد الاوروبى هو «إرادة الشعب». يجب علينا أن نضع حدا لهذا الزعم بتقديم قوة الدعم الشعبى الآن للبقاء فى الاتحاد الأوروبي. ربما لا يحدث تصويت شعبى – لذا، صوِّت الآن». وجاء هذا الالتماس بعد آخر سابق عليه يطالب بالخروج فورا، حتى بدون اتفاق مسبق، أيده حوالى 608 آلاف شخص فقط. حالة التيه هذه تقود المملكة المتحدة الآن فى أزمة لم يكن يُتصور، خارج البلاد خاصة فى دول العالم الثالث، أن تواجهها واحدة من دول الغرب الداعية لإشاعة الحريات وحكم الشعب والقانون. ففى مجلسى العموم واللوردات وقاعات البرلمان الفرعية، وعلى صفحات الصحف والمجلات، وعلى موجات الأثير الإذاعية التى لا تزال نشيطة مؤثرة، وشاشات التليفزيونات ثم وسائط التواصل الاجتماعى تلتهب النقاشات بحثا عن إجابة حاسمة يتفق عليها الجميع عن السؤال الذى بات محيرا: ما معنى الديمقراطية؟. ويتفرع من السؤال الأزمة أسئلة أخرى لا تزال تُطرح منها : هل الديمقراطية هى حكم الصندوق ولا شيء بعده حتى لو ظهر خطؤه؟ هل يمكن أن يغير الناس- الناخبون- رأيهم لو اكتشفوا التضليل الذى قادهم إلى الرأى الأول؟ ما هو دور البرلمان، ممثل الشعب المباشر؟ هل للنواب أن يختلفوا فى مواقفهم تحت القبة عن مواقف أبناء دوائرهم؟ وهل يمكن للحكومة، السلطة التنفيذية، أن تحتقر البرلمان دون محاسبة؟. أخيرا، ما الذى يحول دون رد الأمر إلى الناخب لو ظهر للجميع أن البلاد ضلت الطريق إلى نهاية مجهولة؟!.
خطأ لن يُغفر البداية الحقيقية للأزمة كانت عندما قرر ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطانى المحافظ السابق إجراء استفتاء على عضوية فى بريطانيا فى الاتحاد الأوروبى تنفيذا لوعد انتخابى قطعه عام 2015. لم ينصت كاميرون، حينها، إلى التحذيرات من خطأ لن يُغفر، رغم علمه بتزايد أنصار وتأثير المشككين فى جدوى الاتحاد، الذي، بدوره، لم يساعده بما فيه الكفاية لإبطال حجج هؤلاء. ولأنه ليس لدى بريطانيا قانون للاستفتاءات، فإن مجلس العموم سن قانونا خاصا لتنظيم هذا الاستفتاء، أى أن النواب كانوا جادين، من البداية، فى إجراء الاستفتاء. وأخذ كل طرف وقتا كافيا لإقناع الناخبين بحججه. فأفاض أنصار الخروج فى شرح «أبعاد وخسائر» تبعية بريطانيا، فى القضاء والسياسات الاقتصادية والاجتماعية للاتحاد الأوروبى الذى اتهمت دوله بأنها تفيد أكثر مما يفيد البريطانيين من عضوية بلادهم فيه. ولم يقصر معسكر البقاء فى شرح «الأخطار» ، خاصة فى ملفات الأمن والاقتصاد والسياسية وحقوق العمال، لو غادرت بلادهم الاتحاد الأوروبي. وفى يوم 23 يونيو عام 2016 طرح السؤال التالى على الناخبين: «هل يجب أن تبقى المملكة المتحدة فى الاتحاد الأوروبى أم تغادر الاتحاد الأوروبي». وجاءت النتيجة على النحو التالي: أيد 17 مليونا و410 آلاف و742 مصوتا الخروج بنسبة 51.89 فى المائة، بينما أيد 16 مليونا و141 ألفا و 241 مصوتا البقاء بنسبة 48.11 فى المائة. وبلغت نسبة التصويت 72.21 فى المائة . ومنذ ذلك الحين، هيمن رقم مؤيدى الخروج على الألسنة والمناقشات والجدل، بعد أن تعهدت الحكومة بتنفيذ «تعليمات الشعب» بالطلاق من الاتحاد الأوروبي.
هزيمة غير مسبوقة وعلى مدى عامين ونصف العام تقريبا، لم تكن يثار كثيرا احتمال إعادة الاستفتاء التاريخي، حتى حل يوم 14 نوفمبر 2018 الذى أُعلن فيه عن اتفاق الحكومة البريطانية والمفوضية الأوروبية على مسودة «اتفاق الانسحاب». منذ هذا الإعلان، استحال الخلاف فى الرأى إلى حرب أهلية مستعرة بسبب الخلاف على معنى الديمقراطية. فالاتفاق لم يرض أحدا سوى سكان أيرلندا الشمالية لأنه يسمح بألا تكون هناك حدود صارمة مع أقرانهم فى جمهورية أيرلندا، التى هى عضو فى الاتحاد الأوروبي. ولأن هذا يعنى أن هناك جزءا من بريطانيا لن يغادر، كغيره من مناطق البلاد، الاتحاد الأوروبي، فقد نقم أنصار الخروج على الاتفاق ورفضوه. أما أنصار البقاء، فرفضوه هم أيضا ولكن لأنه لا يتيح علاقات اقتصادية وتجارية، يرونها ضرورية، لضمان استقرار اقتصاد بريطانيا، التى يعتبرونها جزءا من الأسرة الأوروبية. ورغم عرض ماى الاتفاق مرتين على البرلمان، مهددة بأن الخروج الفوضوى هو البديل لهذا الاتفاق الذى اعتبرته الصيغة الوحيدة المتاحة للخروج «الآمن»، فإن النواب رفضوه ثلاث مرات، الأولى بأغلبية تاريخية غير مسبوقة هى 230 صوتا، والثانية بأغلبية 149صوتا، والثالثة بأغلبية 58 صوتا. ومع ذلك فإنها لا تزال تصر على الخروج وكررت تعهدها 108 مرات بالخروج فى 29 مارس. لكنها عادت وقبلت، تحت ضغط حالة التخبط الحالية فى بريطانيا، لقبول الموعد الجديد الذى عرضه المجلس الاوروبي، وهو 12 أبريل شريطة تمرير اتفاقها القديم المرفوض برلمانيا!!، وحينما فشلت فى تمرير الاتفاق فى مجلس العموم طلبت تمديدا جديدا من المجلس الأوروبى، الذى منحها فرصة حتى 31 أكتوبر المقبل!.
تصلب شرايين سياسى وعادت الأمور إلى نقطة الصفر. ومعها رجع النقاش إلى الأصل: هل يجب أن نصر على الخروج من الاتحاد بعد أن ظهرت «المخاطر» و«الصعوبات». وزاد انزعاج الناس بعد اتحاد المؤتمر العام لاتحاد العالم، أكبر وأقوى مدافع عن مصالح العمال والمهنيين، مع اتحاد الصناعة البريطانية، فى إصدار بيان مشترك غير مسبوق يصف أزمة «البريكست» بأنها حالة طوارئ وطنية. وطالب الحكومة بخطة بديلة واضحة لضمان عدم خروج بريطانيا دون اتفاق، ينظم الخروج ويضمن الاستقرار الاقتصادى والتجاري، مع الاتحاد الأوروبي. وحذر البيان ماى قائلا «نحن نمثل معا ملايين العمال وعشرات الآلاف من الأعمال. ونحن نكتب لك نيابة عنهم لنطلب منك تغيير نهجك تجاه بريكست». وأثار البيان مزيدا من الرعب بين الناس، وزاد النقاش انفعالا وضغطا على كل الأطراف للبحث عن مخرج، ما قوّى أصوات المطالبين باستفتاء آخر، وجرّأ المزيد من السياسيين والبرلمانيين على التشديد على طرح السؤال عن الديمقراطية سائلين: لماذا لا نعود إلى الشعب مرة أخرى ليحسم الخلاف بعد فشل البرلمان والحكومة فى التوافق؟. ومن المثير للاهتمام أن البعض رد ساخرا: العودة للشعب إفراط غير صحى فى الديمقراطية!! وبين المعسكرين، اختلطت المواقف فى البرلمان الذى يتابع الناس، على الهواء دون أى رقابة أو منع، مداخلات أعضائه تحت قبته. وكل نائب يقول إنه يعبر عن رأى ناخبيه والمصلحة الوطنية. فلم يعد أحد يعرف شكل «البريكست» الذى يريده الشعب المقسم. فأقدم البرلمان، فى اليوم التاريخى الثالث، على بدعة سياسية غذت اندهاش الناس من شيخوخة الديمقراطية البريطانية التى تبين أنها مصابة بتصلب شرايين شلّ قدرتها على مواجهة أزمة لاحت بوادرها قبل 3 سنوات. فصوت بأغلبية 27 صوتا على أن ينتزع من الحكومة، كممثل مختار من الشعب مباشرة، إدارة الأزمة. وبذلك خاطر بأن وضع نفسه فى اختبار حاسم بالغ الصعوبة لمدى قدرته، فى ظل انقسامه الحاد، على إيجاد حل توافقى يلقى قبول الشعب التائه. وهو اختبار تراهن ماى على فشل البرلمان فيه فى نهاية المطاف. على المستوى الشعبى، انشغلت المواقع الإخبارية، وحتى الإعلانية، بإجراء استطلاعات، غير علمية، لرأى روادها بشأن ما إذا كان يجب أن يُجرى استفتاء جديد بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبى. ونادرا ما نجد استطلاعا واحدا لا تؤيد الأغلبية فيه العودة إلى الشعب مرة أخرى كى يقول كلمة الفصل. وأكثر ما يعنى المهمومين بمصير الديمقراطية البريطانية، فى هذا التحدى التاريخي، هو أن إجراء استفتاء جديد على الخروج من الاتحاد الأوروبى هو أحد الخيارات التى قد لا يجد البرلمان سواها لتجاوز الأزمة. وإن حدث ولقى هذا الخيار تأييد النواب، فسوف يبقى النقاش مطروحا، على الأرجح، لفترة طويلة قادمة قد تتبعها مراجعة شاملة لقواعد عمل الديمقراطية فى أحد مهادها، هذا إن التزم أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبى المتشددين، ومعهم التيارات اليمنية، بقواعد النقاش السلمى حتى النهاية!!