بعد شهور قليلة من توليها منصب رئيسة وزراء بلدها، نيوزيلندا، أعلنت جاسيندا أرديرن أنها تنتظر حادثا سعيدا. وكانت مفاجأة للجميع. رحب بها البعض ووقف امامها البعض الآخر حائرا. لقد تعودنا نحن المواطنين في كل البلدان أن ينجب رئيس الوزراء في اثناء توليه الوزارة. وقد فعلها توني بلير بعد انتخابه عام 1997 وانجب ابنه ليو، وفرحنا جميعا له وسعدنا مع سعادة زوجته شيري. اما ان تنجب رئيسة وزارة فهو الشيء غير العادي رغم ان لها سابقة قريبة، عندما انجبت الراحلة بيتظير بوتو في اثناء توليها الوزارة الباكستانية. انجبت بينظير بوتو ابنيها الاثنين وهي رئيسة وزارة. ومع ذلك ما زلنا لم نتعود على حقيقة ان تدخل رئيسة الوزارة مجلس الوزراء أو أن تفتتح مشروعا أو مؤتمرا وقد تضخمت بطنها امامها. لم نتعود ان تحصل رئيسة الوزراء على اجازة وضع بالرغم من انه حقها لأنها امرأة عاملة وربة بيت ومن حقها ان تكون أما، وأن تحول شريك حياتها من مجرد شريك حياة الى رب اسرة وأب لطفل أو طفلين. وفي حديث تليفزيوني مع فضائية أوروبية وردا على سؤال المحاور ماذا كان شعورك وأنت تعلني على المواطنين خبر انتظارك مولودا وأنت رئيسة وزراء؟ اجابت اعتبرته شيئا عاديا وعلى المجتمعات ان تتعود على وجود المرأة في كل المناصب وان من حقها ممارسة كل ادوارها التي اهلتها لها الطبيعة وهي تتحمل مسئولية عامة. ثم اكدت على المجتمعات ان تتعود على ذلك حتى يصبح شيئا عاديا. هذه السيدة المتسامحة مع ذاتها والواثقة من نفسها هي ذات السيدة التي انتفضت يوم ان هجم الارهابي على مسجدين في مدينة كرايست تشيرش وقتل خمسين من مصليهما. انتفضت رئيسة الوزراء الشابة التي ولدت عام 1980 وخاضت نشاطا سياسيا وتدربت على الحياة السياسية المتنوعة في حزبي العمال البريطاني في اثناء وجود توني بلير في رئاسة الوزارة وفي الآخر حزب العمال النيوزيلندي اثناء تولي هيلين كلارك رئيسة الوزراء النيوزيلندية السابقة في سدة الحكم 1999- 2008 فالواضح ان مبدأها، أي جاسيندا أرديرن، في الحياة هو عدم التمييز واحترام الآخر بغض النظر عن دينه ولونه وانتمائه السياسي ونوعه الاجتماعي. فموقفها من قضايا المرأة لا يتجزأ عن موقفها من الإنسان. امرأة عاملة، تسعي عمليا الى الغاء جميع اشكال التمييز ضد المرأة فتتقدم وتمارس حقها في الأمومة وتعلن على الشعب انها تنتظر حادثا سعيدا حتى وهي رئيسة وزراء منتخبة تتحمل مسئولية نحو خمسة ملايين مواطن. امرأة، تدافع عن حقها في الأمومة بذات القوة والإرادة اللتين تتحلى بهما وهي تعمل من اجل الغاء التمييز والكراهية ضد الآخر المختلف حتى لو شكل هذا الآخر نسبة 1% من التعداد السكاني في بلدها. وهي نسبة المسلمين في نيوزيلندا. وهي نسبة متعددة الجذور، تشكلت من عدد كبير من المسلمين من عدة بلدان بدءا من افغانستان مرورا بالهند وصولا إلى عدة بلدان من الشرق الأوسط. ولكن الواضح انها ليست نبتا لأرض بور لا تنتج ثمرا إنسانيا يحمل صفات الانسانية والحقوق المتساوية كما تحمل صفات الواجبات المتساوية. إنها نبت مجتمعي. كان انتفاضها في الدقائق الاولى لافتا للنظر ولكن بات الأمر عاديا بعد ان تابعنا انتفاض الشعب النيوزيلندي كله مدافعا عن قيم التسامح وقبول الآخر ومناهضة العنف والإرهاب والقتل بسبب الهوية الدينية. تابعنا الاطفال والنساء وكبار السن وهم يهرعون الى موقعي الجامعين حاملين الشموع والزهور ولا يزالون للتعبير عن تضامنهم ونبذهم ما حدث من هجوم. ظهر بكل وضوح ان القضية ليست في انتفاضة رئيسة الوزراء بمفردها تبعا لمسئوليتها السياسية وإنما كان في الانتفاضة والتحرك الشعبيين الكاملين دفاعا عن تلك القيم السلامية التي تسود المجتمع والتي هزها هذا العمل الارهابي الرهيب. من المتابعة تعلمنا ان الثقافة المجتمعية السائدة هي التي تحرك ليس فقط هؤلاء المتعاطفين مع قضايا حقوق الانسان ولا تحرك رئيسة الوزراء فحسب وإنما تحرك كل طوائف الشعب بحيث تصبح محاصرة الارهاب والتطرف والتعصب ظاهرة ثقافية مجتمعية عامة. إذن فالقضية ليست في ارادة الفرد وإنما في ارادة المجتمع. الواقع المجتمعي الذي يوجد ويستمر وينمو من خلال التطور الثقافي المستمر والذي يجعل الطفل يتصرف كما يتصرف المحال إلى المعاش والذي يدفع رئيسة الوزراء الشابة الى التقدم بكل ثقة لتعلن انها تنتظر مولودا، ثم تنتفض أمام حادث ارهابي يدفعها الى ضرورة تغيير القوانين والاستمرار في الدعوة إلى شعار سياسي يلائم الواقع كلنا واحد. هذا ما حدث في نيوزيلندا بعد العمل الارهابي الذي قضى على خمسين شهيدا مسلما كانوا يؤدون الصلاة في المسجدين، فكيف تصرفنا نحن بعد ان تم قتل نفس العدد من المسيحيين الأبرياء على يد الارهاب المتأسلم في نيجيريا؟ ماذا فعلنا نحن المسلمين الذين اخذنا الحماس عندما تضامنت جاسيتدا مع شهداء المسجدين فارتدت الحجاب وكأن ارتداءها الحجاب هو منتهى انتصارنا على الارهاب اللعين. ماذا فعلنا مع الشعب النيجيري؟ هل ننتظر دائما ان تتضامن الدول والشعوب الأخرى مع مشاكلنا شكوانا ثم نقف نحن على الحياد إذا مرت هذه الدول وتلك الشعوب بمشكلات مشابهة وبشكاوى متماثلة؟. يعلمنا الحادث النيوزيلندي أن المجتمع المتماسك والمتسامح لا ينشأ من فراغ وإنما هو ناتج جهد مجتمعي مستمر يزرع القيم الانسانية في ضمائر المواطنين بحيث يخرج بهم الى العالم في هذه الصورة الانسانية الرائعة التي وضحت في مدينة كرايستشورش وفي انتفاضة رئيسة الوزراء والأم والإنسانة جاسيتدا. لمزيد من مقالات أمينة شفيق