سألته إحداهن: ما الحب، ولماذا تحبنى؟! فجاءت إجابة الشاعر أحمد الشهاوى، فى ستة كتب، آخرها بعنوان: كن عاشقا، ولم يفته أن يهدى كتابه إلى أمه نوال عيسى التى فارقت الحياة، قبل أن يكمل عامه الخامس، لأنها: «كتاب العشق ومصدره ومسنده». يعزف الشهاوى على أوتار القلوب سيمفونية شجية بالكلمات، فهل هناك ما هو أمتع من سيرة الحب؟!. الحب عنده سر مغلق ومفضوض، وما بين الكمال والاكتمال والكشف والكتمان والأسرار. العشق فضيلة إنسانية، فأعمق العِشقِ من مُسْتصغر السلوك، فى الذرة المتناهية الصغر كون فسيح من الأسرار، ولا يدرك كُنْهَ القلوبِ سوى خالقها, فمنطقَ الحُب أنه بلا منطقٍ، وليس له كتاب نسترشد به، وكل قلبين اتحدا على هذه الأرض لا يشبهان غيرهما، يقول الفيلسوف الفرنسى فلاديمير جانكلفيتش: إن الحُب يجهل شيئا اسمه القانون. فى «كن عاشقا» يتجول الشاعر فى مجرات العشق، يقطف لك الزهور، فتحلق فى عوالم العشق والعاشقين، تفاصيل فاتنة ورؤى فكرية وإنسانية باذخة، بشرط أن يذهب العارف/العاشق نحو الجِذر، فالسُّطوح لا تُؤدى إلا إلى القشُور، يدعو شوبنهاور لمهاجمة الشجرة من الجذر, كى تصل إلى الحقيقة، أن تلمس قلب الأشياء، أن تمس كبد النار التى تُريد أن تقبض عليها دُون أن تصير رمادا أبدا. تباينت المجتمعات فى نظرتها إلى الحب، بعضها أقام له هياكل القداسة، وبعضها اعتبره عيبا أو رذيلة، بعض الأقدمين ظنوا العشق مرضا نفسيا، لفرط وجع العاشق ومكابدته، عقل كبير مثل الجاحظ عدّه أحد أسباب الشر..على النقيض يطرح الشهاوى رؤية أكثر رحابة وعمقا، أن الحُب هو الأنجع لمداواة النفوس من آلامها وأمراضها، فالعشق أصل الفضائل، يصوغ أى نظام كونى لا يخضع لمرتكزات أو دوائر الشروط، داعيا إلى أن نصبح قوما يكثر فيهم العاشقون لا الحاقدون الكارهون الأشرار. على امتداد 247 صفحة، يبسط المؤلف فوائد الحب للفرد والمجتمع، فالحُب يحوِّل الإنسان من جبانٍ إلى شجاع، ومن بخيلٍ إلى كريم.. يجعل الغافل فطنا، العشق يجدِّد الحياة، يجلو العقل ويحسن الخلق، يصفى الذهن ويبعث على السُّرور والسعادة، يحمل الإنسان إلى مرتبة النقاء، ومقام الصفاء والألفة. إن الحُب ليس هو الإعجاب العارض أو الطارئ، والعشق ليس لهوا أو تسلية أو مجونا أو تزجية فراغٍ، لكنه عبادة لها مناسكها، وصلاة لها طقوسها، هو نفاذ بصيرةٍ، وارتقاءٌ رُوحيٌّ يعلو على ما هو أرضى عابر، إنه امتزاج واتحاد بين رُوحيْن والتقاء بين نفسيْن. ولا ينفك الشهاوى يؤكد، عبر 36 فصلا فى «كن عاشقا»، أن الحُب يجعل الإنسان فى حال من الترفع والاستغناء والاكتفاء والتحقق والسمو، ولا يفوته التحذير من الاعتقاد بأن الحب نسخة واحدة، فالحب اختلاف وتعدد وحرية وتنوع وغنى، يتأتى من مساحات الفروق، وليس سهلا العثور عليه، كذلك ليس مستحيلا. يرى أن المرأة أكثر رقيا فى مسألة الحب، لأنه هدفها ومبتغاها، وإذا ما غاب عنها تعيش حياة الفقد فى كل شىء، وليت الرجل يعرف أن المرأة تحتاج إلى العشق أولا، قبل أى شىء آخر، فالبيوت لا تتأسس ولا تقوى أعمدتها على التحمُّل إلا بالحُب، وإذا خربت النفوس، وقحلت القلوب وتكسَّرت، فلا يمكن أن نكون بشرا أسوياء. حاز أحمد الشهاوى جائزة اليونسكو فى الآداب، وجائزة كفافيس فى الشعر، وترجمت أشعاره إلى عدة لغات، كفره غلاة المتطرفين وأهدروا دمه، لكنه واصل بشجاعة ومثابرة كتاباته فى الشعر وفلسفة الدين، وكان موضوعه الأثير «أدب العشق»، بعدما لمس تزمت وجهل بعض المشتغلين بأمور الدين، لاسيما من الإخوان المسلمين والسلفيين، وقد احتل كتابه «كن عاشقا» مكانة فى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب هذا العام. يحذر الشهاوى من أن أزمنة الاستبداد والتكفير أعداء للحب الذى هو أسمى حضارة بين البشر، وأرقى فضيلة على الأرض، هو فرض عين لا نافلة، الباب الأساسى للدخول إلى كل شىء، ويستطرد: تزداد حماستى يوما بعد يوم فى الكتابة حول الحُب شعرا ونثرا، للوصول إلى الارتقاء والتسامى بالذات، والذهاب نحو النور الكامن فى النفوس وغسل الروح، من أدرانها، وعلاجها من أمراضها المتوطنة والقضاء عليها نهائيا بدواء الحُب، مرددا ما قاله ابن الرومى عن أن العشق لو لم يكن موجودا فى الخليقة لخفيت الفضائل كلها!. [email protected] لمزيد من مقالات د.محمد حسين أبوالحسن