قبل أسابيع قليلة، كان الرئيس الجزائرى عبد العزيز بوتفليقة يستعد للحصول على ولاية خامسة فى الحكم على الرغم من تردى وضعه الصحى منذ 2013، لكن مع موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات، تم تأجيل الانتخابات، وتراجع بوتفليقة عن ترشحه، إلى أن قدم استقالته من منصبه استجابة لضغوط الشارع. إلا أن ذلك كله لم ينه الاحتجاجات التى أصبحت أكثر طموحا، لدرجة أن مجرد الإطاحة بالرئيس لم يعد كافيا لإرضاء المتظاهرين الذين رفعوا من سقف المطالب ليشمل إسقاط النظام بالكامل. رغم كل التنازلات التى أقدم عليها الرئيس المتنحى الا ان المتظاهرين الجزائريين مصرون على رحيل النظام، الذى يضم قدامى المحاربين فى حرب الاستقلال عن فرنسا وضباطا فى الجيش وكبار أعضاء الحزب الحاكم ورجال أعمال, ومحاسبة من يعتبرونهم رموزا للفساد. كما أنهم يعارضون تدخل الجيش فى الشئون المدنية، وتولى المقربين السابقين من بوتفليقة إدارة المرحلة الانتقالية، ويتعلق الأمر برئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح الرجل الثانى فى الدولة، ورئيس المجلس الدستورى الطيب بلعيز، ورئيس الوزراء نور الدين بدوي، وايضا هم ضد أن يخلف سعيد بوتفليقة شقيقه فى الرئاسة. فى ظرف شهر واحد فقط، عرف المشهد السياسى الجزائرى الكثير من التغيرات الأمر الذى يصعب معه توقع ما قد تحمله الأحداث مستقبلا. فالشعب الذى حافظ على سلمية الاحتجاجات, مقابل التزام الجيش بعدم استخدام العنف تجنبا لتكرار سيناريو التسعينيات الذى لا تزال جراحه لم تندمل بعد، يرفض القبول بأنصاف الحلول، وهو ما عبر عنه فى تظاهرته المليونية التى تلت استقالة بوتفليقة. هذه الأخيرة التى تأخرت شيئا ما، حيث كان محيط الرئيس يسعى لكسب المزيد من الوقت لترشيح شخصية تضمن استمرار أحزاب السلطة فى السيطرة على مقاليد الحكم، لكن موقف الشعب وإصراره أربك كل هذه الحسابات بل وأوجد أزمة تنظيمية داخل هذه الأحزاب التى باتت منشغلة بأزماتها الداخلية والدفاع عن وجودها السياسي. أما احزاب المعارضة المتهمة بإضفاء الشرعية على النظام من خلال مشاركتها فى الانتخابات والمؤسسات طوال عشرين سنة، فهى فى جميع الحالات منقسمة وغير قادرة على تبنى مطالب الشارع أو ترجمتها سياسيا. أما الجيش الذى عرض سابقا اللجوء الى المادة 102 من الدستور، وهو الأمر الذى اعتبره الشعب نصف الحل وليس كله، فقد رفع، السبت الماضي، من لهجته تجاه المحيط الرئاسي، مهددا بمواد دستورية جديدة هى المادتان 7 و8 اللتان تنصان على سيادة الشعب على المؤسسات، وشدد على أن اقتراحاته جاءت بصفته الضامن والحافظ للاستقلال الوطني، والساهر على الدفاع عن السيادة الوطنية والوحدة الترابية وحماية الشعب من كل مكروه ومن أى خطر محدق، وفقا للمادة 28 من الدستور. والسؤال الذى يتبادر هو، هل وكيف ستعطى السيادة فعلا للشعب؟ وعبر أى آليات؟ ومن سيتولى الفترة الانتقالية؟ وموقف الجيش هذا يأتي، كما ذكرت بعض المصادر، بعد اجتماع ضم سعيد بوتفليقة، واللواء بشير طرطاق قائد المخابرات إلى جانب قائد المخابرات السابق، حيث تم وضع خطة لإبطال تفعيل المادة 102 من الدستور، إذ تم وضع ما يشبه خريطة طريق تقوم على حل البرلمان بغرفتيه ثم استقالة رئيس الجمهورية من أجل إحداث فراغ قانوني، ويتم بعدها عرض رئاسة الدولة على الرئيس الأسبق اليمين زروال وتعيين الفريق توفيق مدين مستشارا أمنيا له، وهو الأمر الذى رفضه اليمين زروال. المشهد الجزائرى معقد للغاية، ففى اليوم الذى قدم فيه بوتفليقة استقالته، تم إلقاء القبض على رجل أعمال بارز مرتبط بمجموعة سعيد بوتفليقة، كما صودرت جوازات سفر آخرين ومنعوا من مغادرة البلاد. لكن وبينما رحب بعض المتظاهرين بهذه الخطوة، الا أن هناك من طالب بأن يكون مكان الجيش فى الثكنات. غير أن الجيش الذى طالما كان المركز الحقيقى للسلطة، والمتحكم من وراء الكواليس فى توزيع النفوذ، وقبل أن يقوم بوتفليقة فى مطلع الألفية بإقالة بعض قادته مقابل ضم رجال أعمال أثرياء لمحيطه الرئاسي، لن يرضى بهذا الدور المحدود. صحيح لا يمكن لأحد التنبؤ بما سيحدث فى الجزائر غدا، فالكلمة لا تزال للشعب الجزائرى الذى يسعى لإحداث تغيير جذرى فى قياداته ونظامه السياسي، لكن الأكيد ان استقالة بوتفليقة لن تكون نهاية الازمة، بل ربما ستعمقها أكثر بعدما تعقدت خيارات القوى الفاعلة فى المشهد بما يهدد بدخول البلاد فى حالة من الصراع فيما بين كل هذه الأطراف. ويتعين متابعة ما تقدم بدقة حيث إن أى عدم استقرار فى الجزائر سوف يؤثر بالضرورة على دول الجوار، التى لاتزال تدفع حتى الآن فاتورة صعوبة الوضع الأمنى فى ليبيا ومالى ومنطقة الساحل والصحراء, بما يزيد الطين بلة، وهذا بالطبع ما لا نتمنى حدوثه لمزيد من مقالات وفاء صندى