ثورة 19 ثورة كبرى، بل هى الثورة الأهم فى حياة مصر المعاصرة. فما هى الفلسفة التى قامت عليها هذه الثورة؟. والواقع أن هذه الفكرة ترسخت فى الذهن بسبب كتاب الرئيس جمال عبد الناصر فلسفة الثورة ولكن كلمة فلسفة هنا تعنى رؤية عامة لطبيعة السياسة التى سوف يسلكها النظام فى المستقبل وليس الأفكار التى مهدت لها فى الماضي. وفى التاريخ الحديث ارتبطت فكرة الفلسفة بفكرة الثورة من خلال نموذجين: الأول هو الثورة البلشفية فى روسيا والتى تبنت الفكر الماركسى واعتبرت أن ثورتها هى تحقيق لمبادئ الفيلسوف وعالم الاقتصاد كارل ماركس. وفى هذه الحالة تتحول الفلسفة من نظرية لفيلسوف إلى ايديولوجيا رسمية للدولة. أما النموذج الثانى هو الثورة الفرنسية. وفى الواقع لم تنسب الثورة الفرنسية نفسها إلى فلسفة بعينها، ولكن بالنظر إلى الإجراءات التى اتخذتها والطريقة التى تبنتها فى إدارة شئون الحكم والمبادئ التى سعت إلى ترسيخها مثل إعلان حقوق الانسان والمواطن، استنتج المؤرخون أن هناك صلة بين هذه الثورة وأفكار فلاسفة عصر التنوير مثل فولتير ومونتسكيو وديدرو وجان جاك روسو. ولأن الثورة المصرية فى عام 1919 لم تنسب نفسها إلى فلسفة بعينها لكنها كانت بالغة الأثر فى فى حياتنا المعاصرة على المستوى السياسى والفكرى والاجتماعى فإنه يجدر بنا أن نسلك معها بنفس مسلك المؤرخين فى تعاملهم مع الثورة الفرنسية، أى نستنتج فلسفتها من خلال ما سعت إلى ترسيخه من مبادئ ومن خلال الطريقة التى استحدثتها فى الحكم. أول هذه المبادئ وأبرزها هو أن مصر ينبغى لها أن تكون دولة مستقلة. هذا الاستقلال يتضمن بالضرورة التخلص من نوعين من الاستعمار فى ضربة واحدة: الاستعمار البريطانى والاستعمار العثمانى. التخلص من الاستعمار الأول كان يعنى الاطاحة بفكرة عدم وصول الشعوب إلى سن الرشد التى كانت تستخدم لاضفاء الشرعية الدولية على استمرار الانتداب والحماية على الشعوب. والتخلص من الاستعمار الثانى كان يعنى إدارة الظهر لفكرة الجامعة الإسلامية التى كانت تشكل أفقاً للتحرر من الغرب فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، فلم يعد الدين هو أساس الرابطة السياسية بين المواطنين وإنما وحدة الأرض والمصلحة. والتخلص من فكرة الجامعة الاسلامية كان نتيجة ضرورية لتبنى نظام حكم حديث يعتمد على الديمقراطية وعلى المساواة الكاملة بين المواطنين. المبدأ الثانى لثورة 19 هو تعميم التعليم المدنى الحديث الذى يتسم بأنه تعليم علمانى لأنه موجه إلى فصل دراسى يضم أبناء الأمة من مسلمين ومسيحيين ويهود، كما يتوجه إلى الذكور والإناث وإلى مختلف الأعراق التى تكون الأمة. طريقة إدارة الحكم من خلال الدستور والديمقراطية مع التوسع فى التعليم العلمانى يعنى الانحياز الى الحداثة والتى تتضمن تحرير المرأة. ولقد شغلت هذه القضية عددا كبيرا من قادة الرأى قبيل ثورة 19 انطلاقا من الرائد قاسم أمين إلى أحمد لطفى السيد زعيم حزب الأمة وصاحب الشعار الموجز الذى يلخص ببراعة فكرة الاستقلال مصر للمصريين. المبدأ الثانى المهم هو ضرورة الخروج من الاستبداد التاريخى المتواصل عبر قرون طويلة، وكانت أدوات الثورة فى ذلك تتمثل فى نشر التعليم ومنح الحقوق للمواطنين من خلال الدستور. وأخيراً انحازت الثورة إلى العلمانية، فقد اختارت نظام حكم جديدا غير مسبوق وبنت شرعية الحكومة على الانتخابات وليس على الدفاع عن الدين، كما تبنت فى تنظيم العلاقات بين المواطنين القانون الوضعى الحديث ومنعت كل تمييز طائفى أو عرقى أو جنسى. صحيح شاب تطبيق هذه المبادئ الحديثة بعض جوانب النقص وبعض طرق الالتفاف، وكذلك محاولات التعطيل، ولكن كان واضحا أن مثل هذه الأمور مخالفة تماماً لروح ثورة 19. فى النهاية نستطيع أن نقول إن رفاعة الطهطاوى وعبد الله النديم ومحمد عبده وشبلى شميل وقاسم أمين وأحمد لطفى السيد كانوا المفكرين الذين ألهموا بكتاباتهم زعماء ثورة 19. طرحوا جميعهم أهمية أفكار عن أهمية وجود دستور ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وأهمية أن يدير أبناء البلد مجتمعهم بأنفسهم، وضرورة أن يتجاوب الدين مع مقتضيات الحداثة، وأن تتحرر المرأة وتحصل على نفس الحقوق التى حصلت عليها قرينتها الغربية، وضرورة أن ينتقل المجتمع بأسره إلى فكر جديد قوامه العلم والتكنولوجيا بدلا من التعليق على الكلام القديم، وأهمية أن يخرج المواطن من الاستكانة الصامتة التى رسخها فيه الاستبداد القديم إلى المشاركة المستنيرة التى ستحدث بفضل التعليم والحقوق الدستورية التى سيحصل عليها. كان يمكن أن تكون هذه مجرد أفكار لنخبة حداثية معزولة، ولكن خروج المصريين وشعاراتهم التى رفعوها يبين أن هذه الأفكار لم تذهب أدراج الرياح بل شكلت الوعى الجديد للمواطنين. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث