تكتسب الانتخابات التركية المحلية الأخيرة أهمية كبري، ليس فقط من جهة تأثيرها على مستقبل أردوغان ونظامه السياسى فى الداخل التركي، إنما من جهة تأثيرها على مجمل طيف الإسلام السياسى بالمنطقة العربية. انطلق مسار من قلب إسطنبول قبل خمسة وعشرين عامًا باتجاه التوغل فى عمق المنطقة العربية، ما أدى لاستنساخ نماذج تنتمى لجماعة الإخوان ومن شابهها تحمل الجينات العرقية العثمانلية التى تستعلى على العرب وتحقد على دولهم وحضارتهم وثقافتهم، وقد أتاح لها هذا المشروع الذى ظنوا أنه لا يمكن كبحه فرصة ترجمة مشاعر الحقد والاستعلاء عمليًا، وصار أردوغان الذى نجح حزبه هناك فى البدايات لعوامل اقتصادية صكًا لفرض الإخوان علينا، ومن سخريات القدر أنهم طالبونا بنسيان جرائم الإخوان وعدائهم التاريخى لكل ما هو وطني، وأن نقبلهم فى الحكم لمجرد أن أردوغان أصلح الصرف الصحى وأوصل مياه الشرب لبيوت اسطنبول عندما كان عمدتها فى منتصف التسعينيات. اليوم فقط تتم معاكسة هذا المسار فالانتخابات البلدية التى أوصلت العدالة والتنمية لحكم تركيا وصولًا لمشاريع الخلافة، هى بالفعل استفتاء على أردوغان، لا فقط على ممارساته فى الداخل، إنما على شعبويته ومشروعه الدينى والقومى الذى وضع تركيا فى عداء على مختلف الجبهات، وكما سقط المشروع فى الفروع التى تمدد نحوها باتجاهنا بدأ يسقط الآن فى المركز؛ فما جرى خطوة لها ما بعدها فيما يتعلق بمستقبل نظام أردوغان، وبالتبعية مستقبل وكلائه بالمنطقة العربية. نزل أردوغان بكل ثقله ووظف كل ما يملك من أوراق سواء التوظيف الأيديولوجى ضد الغرب أو حتى توزيع عبوات الشاى مجانًا فى مشهد بائس وفتح أكشاك لبيع الخضراوات بأسعار مخفضة، مقابل تشويه المعارضة وربطها بقوى خارجية ووصمها بالإرهاب، فضلًا عن الأجواء القمعية غير المسبوقة فلا صوت فى الإعلام ولا مجال للدعاية الانتخابية إلا لحزب أردوغان وحده وسط مناخ من التهديد والرعب، ورغم ذلك كله فازت المعارضة بأهم وأكبر البلديات، ما يعكس تدهور شعبية أردوغان وحزبه، وأنه لو أجريت الانتخابات فى أجواء حرية وديمقراطية حقيقية لمنى بهزيمة ساحقة. كما كنا نحن العرب ضد ارتهان دولنا عبر الإخوان لمشروع إقليمى توسعى صارت معروفة أهدافه الحقيقية، قال الأتراك كلمتهم التى لم يكن يتمنى أن يسمعها أردوغان فى أكثر كوابيسه فزعًا؛ وهى أنهم أيضًا ضد ارتهان بلادهم بغرض تحقيق مجد شخصى من خلال تبنى مشروع دينى وهمى جلب لهم المتطرفين من جميع الدول وأهدر طاقات دولتهم وأموالها على مشاريع خارجية، ولذا فالإسلام السياسى اليوم يواجه مأزقًا وجوديًا حيث توهم قادته طوال السنوات الماضية أن ترسيخ المشروع فى مركزه بتركيا سيعوض السقوط فى البلاد العربية، وسيكفل إحياء المشروع مجددًا مع ما كان مخططًا لإعلانه فى العام 2023م بمناسبة مئوية سقوط السلطنة العثمانية بالتزامن مع الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية المقبلة. أردوغان الذى كان يؤمل إعلان نفسه سلطانًا عثمانيًا جديدًا فى هذا التاريخ بعد إحكام سيطرته بالكامل على المجال السياسى والمؤسسى التركي، يفاجأ اليوم بانتكاسة كبرى وبمعاقبة الأتراك له على مجمل سياساته التى أعادت دولتهم للوراء على كل المستويات سياسيًا واقتصاديًا، فتركيا التى مكانها الحقيقى هو ما توصف به كدولة عصرية وإقليمية كبرى صارت فى الحضيض يقف أبناؤها فى طوابير الخضار ويهينهم مهووس بإلقاء عبوات الشاى عليهم، ولا تقدر على إقامة علاقات طبيعية مع جيرانها ولا مع دول العالم، فضلًا عن فقدان القدرة على تحقيق توافق ومصالحة بين مكونات المجتمع نتيجة أوهام الزعامة الفارغة. أما جماعة الإخوان فتواجه مصيرها بصحبة أردوغان بعد أن ارتضت أن تكون أداة فى يده, وبالطبع ستخوض معه معاركه غير الشريفة ضد منافسيه السياسيين؛ ومن المنتظر أن يتحايل الرئيس التركى على تلك النتائج بوسائله المعهودة، وهو ما سيقود للمزيد من القهر والظلم والقسوة فى التعامل مع المعارضين، ولمحاولات تفريغ انتصار المعارضة من مضمونه حتى لو تطلب ذلك إعلان الوصاية على البلديات التى فى حوزتها، وإلا تعرض حلمه الشمولى السلطوى فى العام 2023م للانهيار ولفتحت ملفات فساده وفساد عائلته وحزبه. جماعة الإخوان تمضى فى هذا السياق كأداة من أدوات أردوغان البائسة، مدافعة ليس فقط عما تبقى لديها من بصيص أمل فى البقاء، إنما أيضًا عن استثمارات ومشاريع يديرها قادتها فى أزمير وأنطاليا وأنقرة واسطنبول منحها أردوغان إياهم على حساب السكان الأصليين. الأتراك الذين عانوا سياسات أردوغان سيمضون قدمًا فى نضالهم لاستعادة دولتهم وحقوقهم وثرواتهم المهدرة على مشروع الإسلام السياسي، وربما لن ينتظروا حتى العام 2023م لحسم هذا الصراع،ووضع نهاية للعبث الأردوغانى الإخوانى فى تركيا والمنطقة بأسرها. لمزيد من مقالات هشام النجار