هناك العديد من المصانع المتمسكة بتصنيع الأحذية من جلود طبيعية ذات جودة عالية تحاكى بها الصناعة الأوروبية خاصة الإيطالية والانجليزية بل تتفوق عليها فى أحيان كثيرة، مما جعلها محط أنظار الأجانب الذين يقيمون فى مصر أوالزائرين لها، ولها أيضًا زبونها المصرى الذى يعشق الأناقة. وفى شارع عدلى بوسط المدينة، يستقر أحد هذه المصانع، منذ الأربعينيات، ويحرص أصحابه على أن يكون لهم خط إنتاجهم الخاص والمميز وبنكهة عالمية، تحاكى الموديلات به أحدث ما وصلت إليه التصاميم فى أوروبا، مع الإصرار على أن تكون كل الخامات محلية، بداية من الجلد الطبيعى، والخيوط، وحتى اليد العاملة المحترفة فى هذه الصناعة، «الأسطوات» الذين ندر وجودهم فى هذه المهنة إلا فى هذا المكان. ............................... على باب المصنع، يستقبلك بحفاوة كبيرة المهندس محمود عبدالتواب، وهو وريث للمصنع عن أبيه، وهورجل سبعينى يتكيء على عصا تساعده على السير، يتجول هنا وهناك نشيطًا مازال يحتفظ بطموحه وإصراره على أن يكون مصنعه هوالأول من نوعه، فنراه يتنقل بين المعرض الذى يبيع الأحذية بشكل مباشر للزبائن، وبين ورشة التصنيع وهما ملاصقان لبعضهما، حيث تدور عجلة العمل منذ الصباح الباكر ولا تتوقف إلا عند ساعات متأخرة من الليل. يقول عبدالتواب: تعلم والدى الصنعة فى ورشة صغيرة لصناعة الأحذية اليدوية، ولم تكن الآلات والماكينات وقتها معروفة، ثم تفرد فى عمله، وأسس ورشته الخاصة وكان له زبونه الذى يأتى إليه خصيصًا.. مضيفًا: انتقل والدى فيما بعد إلى هذا المصنع المواجه للمعبداليهودى، لتستمر شهرة مصنعه وتزيد، بقدوم اليهود الأثرياء لشراء الأحذية، ثم تبعتهم الجاليات الأجنبية. ويضيف: كنت مازلت طفلًا صغيرًا حينما بدأت صناعة الأحذية فى ورشة أبى تتطور يومًا بعد يوم، فكنت أزوره فى وقت فراغى أثناء الدراسة وأرقب خطوات تلك الصناعة، مبهورًا بحياكة الحذاء يدويًا ثم تأتى مرحلته الأخيرة لعرضه وبيعه للزبون، فيقول: «كانت دورة صناعة الحذاء أشبه بالمعجزة التى لا يستوعبها عقلى الصغير». بعد أن تخرج عبدالتواب فى كلية الهندسة عمل بشركة للمقاولات فترة قليلة ثم قرر أن يبقى فى مصنع أبيه، حيث وجد شغفه بتلك الصناعة، جاذبًا له مغيرًا لمسار حياته المهنية، مما شجع والده على إرساله للدراسة والتدريب فى أوروبا، حيث قضى ثلاثة أعوام فى إيطاليا، تبعها بخمسة أعوام فى ألمانيا، ليتعرف على صناعة الأحذية العالمية، ويأتى لمصنع أبيه بخبرة كبيرة اكتسبها هناك، وأضافها إلى صناعتهم، لتزدهر أكثر. يقول عبدالتواب: تعلمت فى أوروبا الكثير، ورجعت إلى مصر ب «قوالب» أو«فورمة» ذات مقاسات خاصة للقدم المصرية ذات المقاس الكبير، والقالب هوذلك المصنوع من الخشب أوالعاج ويحاك حوله الحذاء، وفى قاموس صنايعية الأحذية نقول: «يُصب الحذاء فى القالب»، مشيرًا إلى أن المصنع تميز بمقاسات خاصة به، لم يستطع مصنع آخر مجاراته فيها، فتستطيع السيدة أن تجد مقاسًا كبيرًا بداية من43 فصاعدًا، والرجل كذلك يمكن أن يبدأ مقاسه من 46 فيما فوق. أحذية ذات مواصفات خاصة ويضيف: يمكن للمصنع كذلك تصميم مقاسات للقدم المريضة أوذات الحجم الضخم، وهوما يسمى بالحذاء الطبى، الذى يريح القدم، مؤكدًا أن الجلد الطبيعى هوالأنسب من الجلد الصناعى لمثل هذه الحالات، حيث يؤدى الأخير لأمراض جلدية للقدم، كما يسبب إزعاجًا لمن يرتديه، مشيرًا إلى أن أحذية المصنع معمرة، لأن الجلد يُشد على النعل بشكل جيد ويدوى، لذا الحذاء لا يتغير شكله بشكل القدم بل يظل متخذًا شكله وتصميمه الصحيح، مهما طالت مدة ارتدائه. وتمر مراحل تصنيع الحذاء بعدة خطوات، ولكى يخرج الحذاء فى شكله النهائى الأنيق مختومًا بشعار «مصنع» لابد من أياد ماهرة تحيك ذلك الحذاء يدويًا، وبورشة المصنع الملحقة بالمعرض ينكفيء عمال لا يقل عمر الواحد منهم عن ال 60 عامًا قضوا عمرًا طويلًا بين جنبات هذا المصنع تعلموا وتتدربوا ثم أصبحوا سادة المهنة، ولا يوجد مثيل لهم فى السوق المصرية، فرغم العروض التى تتوإلى عليهم فإنهم لا يفرطون شبرًا فى هذا الكيان الذى أصبح جزءاً لا يتجزأ منهم. عم سمير سيفين عبادى، هورجل سبعينى مضى نحو50 عامًا بهذا المصنع، تدرج فى كل خطوات التصنيع، حتى وصل إلى مرحلة شد الجلد على القالب، وذلك بعد تنعيمه وتنحيفه حسبما يقول ل «الأهرام»، مضيفًا: أقضى ساعات طويلة بين تلك الجدران، هى فى الحقيقة تتعدى الوقت الذى أقضيه مع أسرتى. يضيف: بينما تعمل أنامله على قطعة الجلد بحرفية شديدة، كنت مازلت شابًا صغيرًا حينما أتيت لأعمل بمصنع كان لايزال صاحبه الحاج عبدالتواب على قيد الحياة، يشعل العاملين حماسة وحبًا للعمل، علمنا ودربنا على الصنعة، ثم جاء المهندس محمود من الخارج ليطور المصنع ويدربنا هوالآخر على الجديد فى تلك الصناعة. أزمة أسطوات بأسى يقول عبادي: للأسف لا يوجد جيل ثان من الأسطوات فى المهنة-الأسطي- أى الشخص الذى وصل إلى درجة كبيرة من الاحترافية، وذلك لأن الشباب يأبى أن يعمل «صرمجى» أو«جزمجى»، لافتًا إلى أنه أنجب اثنين، الولد أصبح مهندسًا للكمبيوتر، والابنة تدرس فى كندا، ثم يتابع بقوله: لم يرغب ابنى فى العمل بنفس مهنتى، مشيرًا إلى أنه أصبح من الصعب للغاية أن يرغب الشباب فى العمل فى مهنة صناعة الأحذية، التى تحتاج إلى صبر وحرفية شديدة. الحوار لم ينته بعد مع المهندس محمود عبدالتواب، والذى يقول: أهم خطوة فى صناعة الأحذية هى الحصول على الجلود المدبوغة بشكل جيد، ثم يقول متفاخرًا: أجود جلود هى المصرية، وهناك البقرى والجاموسى، وجلد الأغنام والماعز، وكل نوع منها يصلح لصناعة أحذية بعينها، وذلك حسب سماكة أونحافة الجلد. ويضيف: تأتى مرحلة تنحيف وتنعيم الجلد وقصه، ثم شده على القالب أوالفورمة التى نريد تشكيل الحذاء على أساسها، مشيرًا إلى أن العمال القابعين على مقاعدهم منهمكون فى العمل، قائلًا: تقريبًا معظم العاملين هنا يقومون بتلك الخطوة، ثم يكمل: الحذاء الكلاسيك اللامع الجلد يُشد على القالب مدة لا تقل عن أسبوعين، أما الحذاء «الكاجوال» فلا تزيد مدة شده على ال 10 أيام. واستفاد عبدالتواب من سفره لألمانياوإيطاليا فى عدة أمور كان أهمها الالتزام بمواعيد التسليم للزبون، وجودة المتتج وال «التفنيش الجيد» وهى تلك المرحلة النهائية فى التصنيع، لإنتاج حذاء بلا عيوب صناعية تضر بسمعة المصنع، وتجعل زبونه ينصرف عنه. بشكل ما تأثرت السوق المصرية بغزوالمنتج الصينى والذى أثر بشكل كبير على مبيعات الورش المصرية، وفى بيان سابق للمجلس التصديرى للجلود، أشار إلى أن مصر تستورد ما بين 135و145 مليون زوج من الاحذية الصينى، إضافة إلى تشعب مافيا تهريب الأحذية والتهرب من الجمارك. ورغم ذلك فإن المصنع تمسك بعراقته فى صناعة الأحذية التى تفوق جودتها جودة المستورد خاصة الصينى. ويمسك عبدالتواب الحذاء بيده، كأنه قطعة فنية، ثم يقول بتفاخر: انتاجنا قليل ومازال لنا زبوننا الخاص بنا، مردفًا، الأجانب هم أكثر زبائننا الآن، وعقب تعويم سعر الجنيه وارتفاع سعر الدولار أصبح الإقبال على شراء الأحذية من المصنع كبيرًا، نظرًا لانخفاض السعر عن أسعار الأحذية الإيطالية المستوردة. وهناك فى أحد أركان الورشة كان ينفرد بنفسه يستمع إلى أغان قديمة من راديوصغير بجواره، منصتًا لكلمات الأغنية مرددًا مع المطرب باستمتاع وسلطنة، يمسك بحذاء فى يده ويشده بحرص شديد على القالب.. هو عم رمضان محمود والذى يبلغ من العمر نحو 68 عامًا. يقول: أعمل فى هذا المصنع منذ أن كنت طفلًا صغيرًا جاء بى زوج أختى إلى هنا حيث كان يعمل هنا أيضًا، وبدأ تدرجى فى الوظائف، فكنت فى البداية مجرد صبى «مشاوير» أى أشترى ما يلزم العمال من مأكولات أوغيره، ثم منظفًا للمصنع، حتى تدرجت وأصبحت عاملا أُصنع الحذاء، مشيرًا إلى مقعده الذى يجلس عليه قائلًا: قضيت على هذا الكرسى أكثر من ستين عامًأ، حاولت مرارًا الاستقلال بنفسى وعمل مشروع لصناعة الأحذية خاص بى ولكنى فشلت ثم رجعت مرة أخرى للمصنع. أزمة عمالة الحاج محمود عبدالتواب صاحب المصنع، يشتكى هوالآخر من قلة العمالة، ومن عدم رغبة الشباب فى العمل بصناعة الأحذية، قائلًا: الشباب يريدون الكسب السريع، متهمًا الدراما المصرية بترسيخ صورة ذهنية غير لائقة عن مهنة صانع الأحذية، مرجعًا هذا السبب لعدم إقبال الشباب على المهنة وتأففهم منها لأنها ذات مستوى اجتماعى غير لائق حسبما يعتقدون.