للجزائر مكانة خاصة فى وجدان الأمة العربية، وبخاصة فى قلب الأجيال التى عاصرت وشهدت كفاح هذا الوطن العربى من أجل الاستقلال والحرية، وأزعم أن هذه المكانة مازالت قوية ثابتة، فقد أصبحت الجزائر رمزاً من رموز التاريخ العربى فى الفداء، كما لا ينسى هذا التاريخ الدور العظيم الذى قامت به مصر لمساندة كفاح الجزائر، مما وطد العلاقات بينهما حتى يومنا، ويمكن إلقاء بعض الضوء على ما يحدث فى بلد المليون شهيد لكى يستشرف المستقبل الواعد الذى نتمناه للأشقاء. وبادئ ذى بدء نقول إن تعبير الحراك الجزائرى جاء على لسان الإعلام والصحافة الجزائرية وكأنها محاولة إبعاد شبهة تعبير الثورة، أو الربيع العربي، أو الانتفاضة، ولتأكيد تفرد الجزائر فى حراكها الراقى المتحضر الذى لم يعكر صفوه عنف أو تدمير أو تخريب، وكأن دماء الشهداء الأبرار قد طهرت الإنسان والأرض والفضاء، وأن لم تتطهر وتنضج العقول بدماء شهدائها فما الذى يطهرها؟! ومما يلفت النظر فى هذا المشهد أن الجزائر بقدر علمى ليس لها أبناء ساروا فى تيار داعش والتطرف والإرهاب، بلد عرف شعبه قيمة الإنسان والحياة، وهب يريد التجديد واللحاق بركب الحضارة والتقدم العلمى والتنمية الشاملة. الجزائر بلد من البلدان التى يطلق عليها منطقة الفرانكفون أو البلدان التى استعمرتها فرنسا عقوداً طويلة وبالطبع تسربت اللغة الفرنسية لتصبح اللغة الثانية بعد العربية، كما تأثرت ثقافتها بالثقافة الفرنسية، وأزعم وقد يكون زعمى على خطأ أو صواب أن بداية الحراك الجزائرى يشبه إلى حد كبير مشهد بداية الثورة الفرنسية سنة 1789 والتى انطلقت من القاع أى من الجماهير التى لا تمتلك السلطة أو القوة، وليس لها هوية سياسية واضحة أو زعيم قائد بارز، بل جاء ما تنادى به تغيير نظام الحكم دون أن تمس بكلمة جارحة لرئيسها، بل تقر أنه قدم الخدمات للوطن وآن الأوان للتغيير، لقد انحرفت الثورة الفرنسية وكما يقال إن الثورة تأكل أولادها أو طغى عليها حكم ديكتاتورى ثم توالت ثورات فرنسا بعد الثورة الكبرى التى أشرت إليها والتى حطمت أبواب وأسوار سجن الباستيل فى 14 يوليو من عام 1789، ثم اشتعلت ثورات 1830، 1848، 1870، وبزغ نجم نابليون وتوج نفسه إمبراطوراً لفرنسا سنة 1804 وبدت ثورة الباستيل رغم تأثيرها على بلدان كثيرة مجرد ذكريات، وما أتمناه ألا تنزلق الجزائر إلى مثل هذا أو ما يحدث فى بعض بلدان عربية. لقد دعا الشعب جيشه الأمين للتضامن فلبى النداء، والتاريخ البشرى أصدق شاهد على أن الجيوش الوطنية هى التى تحمى الوطن وهى المنقذ فى اللحظات التاريخية الفاصلة، فإلى أين يمضى شعب المليون شهيد؟ كشف الحراك الجزائرى للعالم كافة عن يقظة الشعوب العربية ووعيها لقضاياها الوطنية ولموقفها من قضايا العالم، وأن فى وجدان هذه الشعوب حضارة وإرادة للترقى والتقدم. هذه القوى الناعمة التى عبرت خلال أسابيع طويلة صعاباً وتحديات لم تتراجع ولم تمل ولم تيأس، إن طاقة جديدة ما قد تجلت فى الحراك الجزائرى ووحّدت الأمة، تضامنت طبقات المجتمع، رفعت شعارات هادئة ، الحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة، عدم الزج بأسماء دول واتهامها بالتدخل، كأن أرواح الشهداء تطوف بالوطن، إنى أستشرف مستقبلاً واعداً للجزائر يرفض التطرف والتعصب وعنده تواصل بين الإيمان والدين، وبين الحرية والعقل، لعلنا نرى فى القريب الجزائر وطنا حرا أبيا فيه دولة مدنية عربية لحقت بركب الحضارة المعاصرة. لمزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته