بعد مرور أربعة وثلاثين عاما على زيارة بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثانى التاريخية للمملكة المغربية فى 1985، والتى شكلت بالنسبة للمغرب أساسا متينا لبناء جسور الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل بين العالمين المسيحى والإسلامي، جاءت زيارة قداسة البابا فرانسيس الاول للرباط، يومى 30-31 مارس الماضى كامتداد لهذه الزيارة وإحدى ثمارها. واستمدت زيارة البابا فرانسيس أهميتها من العلاقات المتميزة بين المملكة المغربية والفاتيكان, اذ عين الملك الراحل الحسن الثاني، بعد زيارة يوحنا بولس الثاني، سفيرا لدى الكرسى الرسولي، تمثلت مهمته فى الحفاظ على علاقاته الشخصية مع قداسة البابا والحفاظ على الاتفاق بشأن وضع الكنيسة الكاثوليكية فى المغرب وتعزيز الحوار بين الأديان، وعلى درب الملك الراحل سار ابنه الملك محمد السادس الذى احتفظ بذات العلاقة المتميزة، والتى توجت بزيارة البابا فرانسيس الاول للمغرب، الذى عاش على أرضه، لقرون طويلة والى اليوم، مسيحيون ومسلمون، جنبا إلى جنب، فى سلام وتفاهم وتعايش مشترك.. فعلى أرض المغرب عاش المسلمون واليهود والمسيحيون فى تآخ وسلام، كما مارس كل مؤمن طقوسه الدينية بحرية تامة، بفضل ما قامت به الدولة العلوية من مجهودات وأدوار فى تحقيق التقارب والتسامح الديني، بدءا من الظهائر السلطانية للمولى الحسن الأول، مرورا بالموقف التاريخى للمغفور له الملك محمد الخامس، الذى رفض طرد اليهود المغاربة تنفيذا لتوصية نظام فيشى الفرنسي، واللقاء التاريخى الذى جمع الملك الراحل الحسن الثانى بالبابا يوحنا بولس الثاني، وصولا الى ما حققه المغرب فى عهد الملك محمد السادس من تعايش وتآخ. فالعاهل المغربي، باعتباره اميرا للمؤمنين، فهو أمير جميع المؤمنين على اختلاف دياناتهم، وهو مؤتمن على ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية، ومؤتمن على حماية اليهود المغاربة والمسيحيين القادمين من الدول الاخرى والذين يعيشون فى المغرب«، كما جاء فى كلمة العاهل المغربى خلال استقباله بابا الفاتيكان. لقد كان المغرب حريصا، دائما، على تعزيز الأمن الروحى بين أتباع الديانات المختلفة، واتخذ العديد من المبادرات لفائدة تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل بين الأمم وحماية أماكن العبادة والحفاظ على التراث الثقافى والروحى لمختلف الديانات. وفى عام 2017، تم الاتفاق بين الرابطة المحمدية للعلماء والمجلس البابوى لحوار الأديان، الذى يوجد مقره بالفاتيكان، على إحداث لجنة مشتركة للنهوض بالحوار بين الديانتين الإسلامية والمسيحية. ولا يزال المغرب يبذل المزيد من الجهود، ويعتمد المزيد من المبادرات من أجل الحفاظ على موروثه الإنسانى المتمثل فى التعايش وقبول الآخر بكل اختلافاته. واذا كان المغرب قد نجح بفضل كل ما بذله من مجهودات ان يحتفظ لنفسه بأن يكون ارضا للتعايش المشترك والتسامح والاعتدال والسلام، الا ان هذا السلام بات مهددا، ليس فى المغرب، فقط، ولكن فى العالم أجمع، فى ظل الظرفية الدقيقة التى تمر منها الأمتان المسلمة والمسيحية بسبب انتشار موجات التطرف والإرهاب الذى يمارسه البعض، سواء باسم الإسلام أو باسم المسيحية. بالإضافة الى الظروف الصعبة والمهينة التى يعيشها المسلمون فى أوروبا بسبب تزايد الاسلاموفوبيا والتحريض ضد الاسلام، ومواكب ذلك من تزايد الاعتداءات على المسلمين والمساجد، والتى وصلت ذروتها بالهجوم الدموى الذى استهدف منتصف مارس الماضي، مسجدين فى مدينة كرايست تشيرش النيوزيلندية. لقد دعا البابا فرانسيس الاول، من الرباط، الى مجابهة التعصب والأصولية بتضامن جميع المؤمنين، مدافعا عن حرية الضمير والحرية الدينية، معتبرا أنهما لا يقتصران فقط على حرية العبادة، حيث يجب أن يسمح لكل فرد بالعيش بحسب قناعاته الدينية، بل ترتبطان ارتباطا وثيقا بالكرامة البشرية. ومن أجل الكرامة البشرية المنشودة لا بد من تعزيز ثقافة التسامح والتعايش السلمى وتبنى المبادرات ذات الصلة بين أتباع الديانات السماوية، بالإضافة الى مواجهة حملات الازدراء والكراهية أيا كان مصدرها. وهنا يأتى دور بابا الفاتيكان فى تخفيف الاحتقان ضد المسلمين فى أوروبا والتخفيف من حدة الإسلاموفوبيا وبناء مصالحة وسلام دائم بين دينين عاشا مرحلة تاريخية كبيرة من الصراع والحروب راح ضحيتها آلاف القتلى من الجانبين. وهنا يأتى ايضا دور القيادات الإسلامية من اجل تجديد الخطاب الدينى وتنقيته من كل ما من شأنه أن يفسد التعايش السلمى بين الاديان. إن ما يمر به العالم الاسلامى والمسيحى من احتقان متزايد، يتطلب موقفا صريحا، وجرأة فى مواجهة الموروث الفاسد، سواء كان إسلاميا او مسيحيا، واجتهادا فى تجديد الخطاب الدينى الاسلامى والمسيحي. والامل فى ان يبادر الحكماء من المسلمين والمسيحيين بالتفكير جديا فى بلورة مشروع عالمى يحتفل بالتنوع وبالموروث الإنسانى المشترك، تطبيقا لما أراده الخالق سبحانه وتعالى حين قال: «.. وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا...» وصولا إلى إعلاء القيم الإنسانية النبيلة التى تكفل أن يعيش الجميع فى حرية ووئام بغض النظر عن معتقداتهم واختياراتهم الدينية. لمزيد من مقالات وفاء صندى