فى الوقت الذى يتعرض فيه تنظيم «داعش» لتقليص نفوذه، بعد أن توالت هزائمه فى معاقله الأساسية فى كل من سورياوالعراق، وتضاؤل مساحة الأراضى التى بسط سيطرته عليها، بعد سنوات من القتال اتجه التنظيم إلى معقل آخر ليخلق له موقعا آمنا يعيد من خلاله ترتيب أوراقه من جديد، وهو جزيرة «مينداناو» فى جنوبالفلبين، التى طالما كانت ملاذا للمتمردين منذ زمن طويل مستغلا أوضاعها الجغرافية النائية، وضعف سيطرة الحكومة الفلبينية ليبسط سيطرته عليها. الأمر الذى يطرح تساؤلا حذرا حول جنوبالفلبين وهل سيصبح ملعبا جديدا لتنظيم «داعش» ينطلق منه إلى قلب القارة الاسيوية؟ وهو سؤال بدأ يفرض نفسه بقوة خلال الأشهر الماضية، ولا سيما فى ظل الضربات الإرهابية التى قام بها التنظيم مؤخرا فى الفلبين، حيث يرى بعض المراقبين أنها ربما ستصبح قاعدة انطلاق التنظيم لشرق آسيا فى المستقبل. وقد سلط التقرير الذى نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية الضوء على الأوضاع الجديدة فى الفلبين، واعتبرها بمثابة بيئة جاذبة لتنظيم «داعش»، خاصة فى ظل تقلص وجوده بمنطقة الشرق الأوسط، وتركيزه على البحث عن مناطق نفوذ جديدة، ويشير التقرير إلى أن تنظيم «داعش» منذ نشأته، وهو يحاول ترويج فكرة الانطلاق من معقله الأساسى فى سورياوالعراق لينتشر فى العالم بأسره بإنشاء أفرع عديدة له يطلق عليها اسم ولايات، وقد كانت الفلبين على خريطة انتشاره، حيث سعى إلى جذب المقاتلين من جماعتى «أبو سياف» و«ماوتي» الإرهابيتين واللتين أعلنتا بالفعل ولاءهما لداعش فى العام الماضى بعد انشقاقهما عن جبهة «مورو الإسلامية للتحرير» التى تطالب بإنشاء دولة إسلامية فى جنوب البلاد، وذلك بسبب مباحثات السلام التى أجرتها الأخيرة مع الحكومة الفلبينية. ولعل الانفجار الذى وقع فى إحدى الكنائس فى الفلبين أواخر شهر يناير الماضي، وأسفر عن مقتل 23 شخصا، وإعلان التنظيم مسئوليته عن تنفيذه، ثم قيامه بنشر العديد من الرسومات بعد الانفجار على مواقعه الالكترونية يظهر فيه الرئيس الفلبينى «رودريجو دوتير» جالسا على كومة من الجماجم، ومقاتل يقف فوقه بخنجر، مؤشرا على وجود التنظيم فى الفلبين، ولا سيما بعد أن انتشرت أعلام داعش السوداء على أراضى جزر جنوبالفلبين واطلاق اسم إمارة إقليم شرق آسيا عليها. وتعود بداية ظهور «داعش» فى الفلبين إلى عام 2016، بعد قيامه ببث أول فيديو له من هناك، دعا فيه المقاتلين إلى الالتحاق بفرع التنظيم فى البلاد، وهو ما جذب المسلحين الذين لم يتمكنوا من السفر إلى العراقوسوريا، حيث تشير التقديرات إلى أن مئات المقاتلين القادمين من الشيشان والصومال واليمن قد انضموا إلى التنظيم، واستولوا على مدينة «مراوي» فى جزيرة « مينداناو»، إلا أن الجيش الفلبينى شن هجماته على هؤلاء المتمردين وأعلنت السلطات الفلبينية الانتصار عليهم، لكن يبدو أن هذه الهجمات لم تمنعهم عن إعادة تنظيم صفوفهم مرة أخري. ويمكن القول إن الفلبين شهدت منذ تسعينيات القرن الماضى بداية ظهور الجماعات المتطرفة، وخاصة بعد عودة القوات من ساحات المعارك فى أفغانستان، حيث تم استغلال الأوضاع الاقتصادية السيئة بجنوب البلاد لنشر الأفكار المتطرفة، وبالفعل انتشرت عمليات التمرد المحلى بالفلبين، وتمثلت تحديدا فى جماعة «أبو سياف» التى تبنت شن حملات من التفجيرات الإرهابية، فقد وجدت فى تلك المنطقة أرضية خصبة لنشر أفكارها وإقامة دولتهم بجنوب شرق آسيا. وتعليقا على هذه الأوضاع الجديدة تقول «سيدنى جونز» مديرة معهد تحليل السياسات الإندونيسية: «لم تستطع الحكومة الاعتراف بقوة التنظيم وقدرته على جذب المتعلمين فى الجامعات وصولا إلى أطفال جماعة «أبو سياف» فى الغابات. لذلك وجد كثير من هؤلاء فى فكرة الدولة الإسلامية بديلا مرغوبا فيه للديمقراطية المزيفة». أما رومل بانلاوي، رئيس المعهد الفلبينى للسلام وأبحاث العنف، فيشير الى أن تنظيم «داعش» يحصل على أموال من الخارج لتمويل عملياته وتدريب مقاتليه، ويقول أيضا: «إن التنظيم يعتبر من أعقد مشكلات الفلبين وأكثرها تطورا، وينبغى ألا نتظاهر بعدم وجوده لمجرد أننا لا نريده أن يكون موجودا». ويذكر التقرير أنه رغم تكثيف الهجوم العسكرى من جانب الجيش الفلبينى على بؤر تمركز التنظيم، والذى كان آخرها ردا على تفجير الكنيسة، إلى جانب قيام طائرات الاستطلاع الأمريكية حاليا بمراقبة «أرخبيل الفلبين»الجنوبي، حيث ترتكز الأقلية المسلمة فى البلاد، علاوة على تصريح جيرى بيسانا المتحدث باسم القيادة العسكرية فى مدينة زامبوانجا الفلبينية، بأن العدد الإجمالى للمسلحين فى باسيلان يقدر بحوالى 200 مقاتل، وأن زعيمهم قد بايع تنظيم «داعش»، فإن الحكومة تتجنب الاعتراف بحقيقة انتشار «داعش» فى الفلبين حيث يصر المسئولون على عدم وجود مقاتلين أجانب على أراضيها. وفى كل الأحوال يمكن القطع بأن الجنوبالفلبينى قد بات منطقة توسع و صعود لتنظيم «داعش»، مما يهدد السلام الهش الذى تحقق فى هذه المنطقة وأنهى صراعا استمر لنصف قرن بين الحكومة والأقلية المسلمين بتوقيع رئيس الفلبين «رودرجو دوتيرتي» العام الماضى قانونا يمنح «جبهة تحرير مورو» حكما ذاتيا، وقد جاء هذا القانون تتويجا لتفاهمات توصلت إليها الحكومة مع جبهة مورو، فى مسار السلام الذى استمر عدة سنوات، وشهد إيقاعا سريعا منذ تولى الرئيس «دوتيرتي» الحكم منتصف عام 2016، وأخيرا يرى العديد من الخبراء ضرورة اتخاذ الحكومة الفلبينية الإجراءات اللازمة تجاه خطر «داعش» خوفا من أن تتحول لتصبح مثل المناطق الموجودة على الحدود الافغانية والباكستانية ليبقى التساؤل المطروح هو ما السبيل فى مواجهة خلايا «داعش» فى جنوبالفلبين؟ وخاصة أن إمكانات الحكومة الفلبينية لا تستطيع أن تصمد وحدها أمام هذه التنظيمات الارهابية.