على مدى العقود الماضية، اندفعت الولاياتالمتحدة, والغرب من ورائها, للعدوان ضد الدول العربية، كأنها جرم سماوى قذف بنفسه من الفضاء، ليصطدم على نحو مروع بهذه البقعة من العالم، تعيد توزيع القوى فوق تخوم الإقليم، تنهى أوضاعا قائمة، وتخلق غيرها، تثير زوابع من علامات الاستفهام والتعجب حول دوافعها ومراميها ونواياها. فى أغسطس 2016، أصدرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عددا خاصا حول موضوع، استغرق صفحاتها، عنوانه «الأراضى الممزقة..كيف أصبح العالم العربى مشردا»، رصدت خلاله ملامح التردى فى البلدان العربية، واعتبرت أن لحظة التحول الحقيقية، بدأت بكارثة العدوان الأمريكى- البريطانى على العراق عام 2003، فهو لم يدمر نظام حزب البعث الحاكم وحده، بل دمر الدولة نفسها، قتل أكثر من مليون ونصف مليون عراقى، وتجاوزت كلفة الحرب تريليونى دولار، وحول العدوان المنطقة العربية إلى بؤرة ملتهبة بالأزمات العاتية، تصدر اللاجئين، وأطلق وحشا مرعبا يقض مضاجع البشرية، ممثلا فى تنظيمات الإرهاب، داعش وأخواتها. وذهبت الصحيفة الأبرز عالميا بعيدا، عندما اعتبرت أحداث الربيع العربى إحدى النتائج الثانوية أو الهزات الارتدادية لاحتلال العراق، واستعرضت الدمار الهائل الذى حاق ببلدان الربيع وقدرت خسائرها بنحو تريليون دولار، وقالت إن معظم الجروح العربية لا تزال نازفة وتستعصى على الشفاء، وإنه لا مؤشرات على أن هناك مستقبلا عربيا أفضل!. ومن المؤكد أن تلك إحدى المرات النادرة التى تعلق فيها وسيلة إعلام غربية نافذة الجرس فى رقبة القط، على هذا النحو، فالغرب، ولأسباب كثيرة، يتحمل الشطر الأكبر من المسئولية عن انحطاط الأوضاع، فى الشرق الأوسط «السعيد»، حتى استقرت صورته الذهنية فى وعى شعوبنا باعتباره «المتآمر الأزلى»، وللأسف فإن الولاياتالمتحدة تواصل نكء جراح العرب وإذلالهم، وكان اعتراف الرئيس الأمريكى ترامب بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، أخيرا، ومن قبلها القدسالمحتلة، خطوة جديدة فى سياسة ممنهجة للهيمنة على المنطقة وهضم ثرواتها، بتفكيك المنظومة العربية وتعطيل طاقات شعوبها، إذ تؤخذ دولهم، واحدة تلو الأخرى، تعطل قواها العسكرية وتستنزف قدراتها الاقتصادية ويمزق نسيجها الاجتماعى، ولم يكن العراق سوى ضربة البداية، والحبل على الجرار، ما يجرى فى الجولان وفلسطين المحتلة وليبيا وسوريا واليمن والسودان.. إلخ، أحد أطوار سياسة التفكيك الكولونيالى - الصهيونى لبلاد العرب، حماية للدولة العبرية، من خلال ضرب الأمن القومى وتصفية القدرات الاستراتيجية الشاملة للعرب، تحسبا لاحتمال استخدامها يوما ضد إسرائيل التى يحتل أمنها أولوية متقدمة لدى العقل الاستراتيجى الأمريكى. الحقيقة الساطعة أن أمريكا ليس لها سوى صديق واحد فى الشرق الأوسط، تقاتل كل أمم الأرض من أجله، هذا الصديق هو الدولة الصهيونية المحتلة الغاصبة. هنا نأتى إلى الحقيقة الأكثر إيلاما ووجعا، وهى مسئولية العرب أنفسهم عن نكباتهم ونكساتهم وهزائمهم التى تبدو بلا نهاية، إننا كعرب ومسلمين نبالغ فى تخيل أنفسنا رواد حضارة وقادة للعالم أو فاعلين فى التاريخ، لا مجرد مفعول بهم، كل ذاك هربا من بشاعة الحقيقة: إننا أمة مفككة منهكة منتهكة تحرقها الخلافات الداخلية بين أفرادها، تقبع على الهامش العالمى، فرطت فى قرارها ومصادر قوتها، تركت زمامها بأيدى أعدائها، يتحكمون فى نزاعاتها، إن عرب القرن الحادى والعشرين يشبهون شخصية «هاملت» فى مسرحية شكسبير الذائعة، يعتز بذاته لكنه متردد، عقله مستغرق فى الأزمات، دون حسم، ومثل مأساة هاملت تكتمل أركان المأساة العربية فى ضياع الطريق الصائب والبصيرة الثاقبة وتراكم الاختيارات الخاطئة، ولا أدرى لماذا يطيف بى صوت الشاعر السورى نزار قبانى، وهو يصرخ فى أسى: «متى يعلنون وفاة العرب؟!». وبداعى الموضوعية والإنصاف، فإن تغيير الأحوال العربية الراهنة ممكن والوصول إلى مرفأ الأمان ليس مستحيلا، الصورة ليست معتمة بالكامل، هناك غلالات نور من وراء الظلال، اختتمت «نيويورك تايمز» وقفتها على تخوم مأساة العرب بالإشارة إلى أنها متفائلة ومتشائمة، معا، متفائلة، لأن التاريخ يقول إن كل شيء يمكن أن يعود من جديد، مرت اليابان وألمانيا النازية فى نهاية الحرب العالمية الثانية بأسوأ مما نحياه نحن العرب حاليا، كما أن الصحيفة الأمريكية أبدت قدرا من التشاؤم تجاه أحوالنا، لأنه لا شيء على الأرض يشير إلى فرصة للعودة من جديد، فالمنطقة تدمرت كليا، ولم يعد أمام شعوبها بصيص أمل سوى الإيمان بأن الغد يمكن أن يحمل لهم بعض نسائم الحرية والديمقراطية والقوة والتقدم. [email protected] لمزيد من مقالات د.محمد حسين أبوالحسن