إنه اليوم العالمى للمرأة وعيد الأم وبداية الربيع. كل ما سبق يدعو للتفاؤل و حب الحياة، ولكن الواقع يرصد الموت. نعم؛ فهى تجلس وحيدة محاصرة. من يمر بها من أبناء الطبقة العليا يلقى عليها اللعنات، ويتهمها بالجمود والاندثارعلى الرغم من أنها أنجبتهم، ونسبوا إليها، وظلت تجمعهم تحت جناحيها لترعاهم وتعلمهم وتربى نفوسهم وترقق مشاعرهم، وترتفع بهم للذوق الرفيع. لم تفرق فى يوم من الأيام بينهم بسبب مستوياتهم الطبقية ولا من حيث الشكل والعقيدة. ثم فجأة تنصل منها الأبناء ولجأوا إلى أم غيرها فالتفوا حولها ورفعوها إلى عنان السماء وجعلوها الأم. وكلما اشتكت الأم الحقيقية من جفاء الأبناء زادوا فى البعد والتنكر لها ونعتوها ب local أو traditional. فهل هناك من يتبرأ من أمه؟ للأسف نعم؛ فى هذا العصر الحديث هناك من يتبرأ من أمه التى هى لغتنا العربية، أو بلغة أبنائها الذين يجحدونها mother tongue وياليتهم يعترفون بأنها حتى اللغة الأم. إنها ظاهرة فى غاية الخطورة؛ ذلك لأنها ظاهرة استعمارية من الدرجة الأولى ودون أن نشعر؛ فأبناء الطبقة العليا من المجتمع ويتبعهم الطبقة المتوسطة يتطلعون إلى تعليم أبنائهم فى أرقى المدارس. ولا ضير فى ذلك إذا حافظوا على ثقافتهم ولغتهم. ولكن الخطر هو البعد عن اللغة العربية التى تمثل هويتهم وثقافتهم، وإحلال اللغة الإنجليزية محل لغتنا. ولكى يتقن الصغير الإنجليزية عليه ألا يتحدث غيرها فى المنزل ومع الأصدقاء ولا يقرأ إلا بها، وألا يشاهد غير الأفلام الناطقة بها ولا يستمع إلا إلى أغانيها. ولا يقف الخطر عند هذا الحد بل يمتد إلى تبنى لكنة النطق الأمريكية أو الإنجليزية ليصير الطالب أجنبى اللسان والثقافة. ويتنافس الأبناء فى هذا حتى يطلق على كل الشباب الذين يتحدثون هكذا بأنهم الطبقة ال classy ومن هذه اللحظة يبدأ الأبناء فى بغض اللغة العربية ومن يتحدث بها. وينظرون إلى من يتحدث دون لهجتهم ولكنتهم على أنه من الطبقة الدنيا. وينظرون إلى مجتمعه العربى على أنه مجتمع همجى وأقل حضارة من المجتمع الأجنبى؛ فلا يقدم فكرا ولا ثقافة ولا علما. ولن نستعيد والحالة هذه أمجاد الماضى القريب فنفخر ب طه حسين، ونجيب محفوظ الذى حصل على نوبل، لأنه كتب بلغته أعظم الروايات وانطلق من محليته إلى العالمية. أو نذكر يحيى المشد الذى نبغ فى الذرة حتى اغتالته يد الغدر كى لا يكمل مسيرته العلمية وكذلك الدكتورة سميرة موسى، والدكتور مصطفى مشرفة، والدكتور مجدى يعقوب، والدكتور محمد غنيم. هؤلاء جميعا تعلموا لغتهم وثقافتهم العربية ثم ذهبوا إلى العالم الغربى فكانوا سفراء العلم والفكر لبلدهم مصر. لم يحتقروا ثقافتهم و لا لغتهم أبدا مع ما وصلوا إليه من أعلى المراتب الفكرية والعلمية. لقد قوى الفكر الصهيونى مكانته بإعادة إحياء لغته العبرية، ونحن نهدم حضارتنا وثقافتنا بقتل لغتنا واحتقارها على يد أبنائنا. أنا لا أنادى بلغة واحدة بل أشجع بدراسة اللغات الأخرى ولكن لابد من الاهتمام بلغتنا وثقافتنا أولا وتقديمها بشكل محبب للشباب. ولا ضير من الاستفادة من طرق تدريس اللغات الأجنبية لتدريس اللغة العربية وتقديمها بصورة محببة للطلاب. لقد نادت الدولة برفع روح الانتماء, فكيف ينتمى الأبناء لبلدهم وهم يعزفون عن ثقافتهم ولغتهم ويرونها فى الدرجة الأدنى؟ ولن يكون الحل إلا من خلال الدولة بفرض اللغة العربية على طلاب جميع المدارس التى تنشأ على أرض مصر، ويكون منهجها متسما بالجدة والأصالة حتى لا نضيع حضارتنا ونتحرر من الاستعمار الفكرى. فاللغة هى الوطن وهى بيت الوجود كما يقول هيدجر؛ فإذا أردت أن تهدم شعبا فابدأ بلغته. لمزيد من مقالات شيرين العدوى