لاتزال الثورة العرابية, علي الرغم من مرور كل هذه الفترة الطويلة, من الأمور المثيرة للجدل في التاريخ المصري; ولعل أول النقاط الشائكة في هذا الشأن هو مسألة نعت الثورة ب(العرابية) نسبة إلي أحمد عرابي. وربما هي الثورة الوحيدة أو ربما الحدث الوحيد في تاريخ مصر الذي ينعت باسم شخصية ارتبطت بأحداثه. فنحن نطلق علي ثورة1919 سنة حدوثها دون أن ننعتها بالثورة الزغلولية أو السعدية, وينطبق نفس الشئ علي ثورة23 يوليو, علي الرغم من الشخصية الكاريزمية لعبد الناصر لم يجرؤ أحد علي تسميتها بالثورة الناصرية. والحق أن تسميتها بالثورة العرابية لم يكن الغرض منه الإكبار من شأن عرابي بقدر ما هو التقليل من شأن وعمومية الثورة ونسبتها إلي عرابي, إذ ترتبط هذه التسمية بما اطلق علي الثورة العرابية بعد فشلها ب(هوجة عرابي). وهكذا حتي عندما تم رد الاعتبار للثورة العرابية سقطنا جميعا في نفس الفخ ورددنا نفس التعبيرات السابقة وأطلقنا عليها الثورة العرابية. ويعتبر عرابي نفسه أول المعترضين علي هذه التسمية وإطلاق اسمه علي الثورة; إذ يحرص عرابي في مقدمة مذكراته علي أنها الثورة المصرية, حتي أنه عنون هذه المذكرات باسم كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية في تأكيد علي أنها ثورة المصريين وليست ثورة عرابي. كما يؤكد علي نفس المعني المؤرخ الألماني الراحل الكسندر شولش الذي درس الثورة العرابية في أطروحته للدكتوراه. إذ يري شولش أنه ليس هناك من معني لاطلاق اسم العرابية علي هذه الأحداث لأن الثورة بدأت من وجهة نظره منذ أواخر سبعينات القرن التاسع عشر واستمرت حتي عام1882, بينما عرابي لم يظهر علانية علي مسرح الأحداث إلا في مطلع1881, واقتصار البحث علي حركة عرابي قد يعني تحديد وجهة نظرنا لفهم مجريات الأمور تحديدا تعسفيا. وهكذا سقط الجميع في فخ تسمية الثورة ب(الثورة العرابية) والذي كان المقصود منه في البداية التهوين من شأن الثورة وإلحاقها بعرابي العاصي علي السلطة الشرعية. فالحق أن الثورة العرابية تعطينا خير مثال حول مسألة من يكتب التاريخ؟ فالتاريخ في الحقيقة يكتبه المنتصرون ولذلك كتبت تفاصيل هذه الأحداث بعد هزيمة عرابي وبعد الاحتلال البريطاني لمصر في عام1882, فتم تناول هذه الفترة إما من خلال مؤرخي الاحتلال, أو مؤرخي الخديو, أو كتبت بمداد روح الهزيمة والشعور بالأمر الواقع مثلما تناول الإمام محمد عبده ومصطفي كامل سيرة وشخصية عرابي بالنقد الشديد, وأنه أي عرابي هو الذي أسلم مصر إلي الاحتلال برعونته وعدم قدرته علي التعامل مع الأمور. لذلك ظل تاريخ هذه الأحداث, فضلا عن تاريخ عرابي نفسه, من الممنوعات في الكتب المدرسية بل وفي الدراسات التاريخية طيلة الفترة الملكية, حتي أن عبد الرحمن الرافعي مؤرخ الحركة القومية تناول هو نفسه عرابي بالنقد وربما التجريح. وتعتبر دراسة محمود الخفيف عن أحمد عرابي دراسة رائدة من حيث إعادة قراءة تاريخ أحمد عرابي من جديد وتوجيه الرأي العام وجهة جديدة تنظر إلي عرابي بقدر كبير من الموضوعية أو في الحقيقة بقدر أكبر من الاحترام الذي يصل في بعض الأحيان إلي الانبهار. ولذلك يهدي محمود الخفيف كتابه إلي الأشبال النواهض الميامين من شباب هذا الجيل في وادينا المبارك وفي الأقطار العربية الشقيقة, أهدي سيرة هذا الزعيم المصري الفلاح الذي جاهد في سبيل الحق ومات في سبيل الحق, والذي آن الأوان أن ينصفه التاريخ وأن يحدد له مكانه بين قواد حركتنا القومية. وقدر لمذكرات عرابي أن تظل مخطوطة حبيسة الأدراج إلي أن يتم نشرها مع سقوط الملكية وصعود ثورة23 يوليو علي يد الضباط الأحرار. هؤلاء الضباط الذين اعتبروا أنفسهم أحفاد عرابي وأن نجاح ثورتهم هو في الحقيقة استكمال للدور الذي لم يفلح فيه عرابي. لذلك لم يكن غريبا أن يكتب أول رئيس جمهورية لمصر اللواء محمد نجيب في فبراير1953 مقدمة لمذكرات عرابي التي قامت بنشرها دار الهلال, حيث عنون نجيب مقدمته بزعيم الثورة المصرية الحديثة يقصد نجيب نفسه يقدم مذكرات زعيم الثورة العرابية في دلالة علي حركة الاستمرارية بين ثورة عرابي وثورة الضباط الأحرار. ويصف نجيب أحمد عرابي قائلا أنه: جندي باسل يعرف حق بلاده عليه ويعرف متي وكيف يؤدي واجبه كاملا غير منقوص, لكي يرفع لواء الكرامة الوطنية. ويربط نجيب بين الماضي والحاضر, وعرابي وثورة يوليو قائلا أن هذه المذكرات قد تضمنت وقائع وطنية واتجاهات قومية سيكون له أثره المحمود في هذا العهد الجديد ثورة يوليو عهد الحرية والكرامة وثورة الحق والعدل علي الباطل والفساد. وإذا حاولنا أن نضع ثورة عرابي في مقامها بين الثورات المصرية, سندخل هنا إلي منطقة شائكة, وربما جدلا مثيرا, سواء حول طبيعة الثورة العرابية نفسها أو حول مفهوم مصطلح الثورة في التاريخ المصري, وهي أسئلة كان من الصعب علي معظم المؤرخين المصريين تناولها لأنها تصطدم بالمشاعر الوطنية. لكن المؤرخ الألماني شولش الذي سبقت الإشارة إلي دراسته المهمة تناول هذه المسألة بقدر من الموضوعية يحسد عليها; إذ يبدأ دراسته بتناول مفهوم الثورة في التاريخ المصري ويري أن مصطلح الثورة يستخدم في مصر بشكل فضفاض يختلف عنه في المفهوم الألماني الذي يعني بالثورة تحول كامل للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد بصورة أساسية وثابتة. وهنا يدخلنا شولش في الحقيقة إلي حقل ألغام في التاريخ المصري, إذ درج المؤرخون المصريون علي إطلاق لفظ ثورة علي الكثير من الأحداث, بداية من ما اطلقنا عليه ثورة القاهرة الأولي والثانية أثناء الحملة الفرنسية, وهي هبة محدودة في الحقيقة لا ترقي إلي مرتبة الثورة, وصولا إلي ما اطلق عليه السادات ثورة التصحيح في15 مايو1971 حين أطاح بخصومه. كما تثير الثورة العرابية مشكلة عند اطلاق مصطلح ثورة عليها, فمن الناحية الأكاديمية الثورة وكما أسلفنا لا بد أن تغير البني الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المجتمع, ولذلك ارتبط اطلاق مصطلح ثورة في الدراسات الأكاديمية علي الحركات التي تنجح بالفعل, لأن نجاح الثورة ضروري لإحداث مثل هذه المتغيرات. من هنا يتحفظ البعض علي اطلاق مصطلح ثورة علي الثورة العرابية لأنها لم تنجح وبالتالي لم يترتب عليها تغيرات عنيفة تهز المجتمع المصري, لذلك اطلق الكسندر شولش علي الثورة العرابية مصطلح أخر وهو أزمة مصر الاجتماعية والسياسية1878-1882. التساؤل الأخير الذي نطرحه حول الثورة العرابية هو ما أخذه البعض عليها من غلبة الطابع العسكري. وفي الحقيقة تم اختزال الثورة في شخص عرابي وتم اختزال فترة الاختمار والأزمة الاجتماعية والسياسية والتي بدأت منذ أواخر عصر إسماعيل, تم اختزال كل ذلك في أحداث السنة الأخيرة من الثورة1881-.1882 ومن ناحية أخري يدافع محمود الخفيف في كتابه( أحمد عرابي الزعيم المفتري عليه) عن الطابع العسكري الذي أخذته الثورة قائلا: وما يشين هذه الحركة مشاركة العسكريين فيها, فليست في ذلك بدعا من الحركات, فما خلت حركة قومية من عنصر الجند إما متطوعين أو من الجيش القائم, وهل يعيب حركة استقلال أمريكا مثلا أن واشنطن الجندي كان زعيمها؟ وهل يشين الثائرين من الأحرار علي استبداد الملك شارل الأول في انجلترا استعانتهم بكرومويل وجنوده؟ وهل كان في انضمام الجيش في فرنسا إلي أكثر الحركات الثورية مما يذهب بجلال هذه الثورات؟ ذلك ما لا يقوله منصف. وفي رأينا أنه آن الأوان بعد ثورة25 يناير أن نقوم وبحق بحركة مراجعة جديدة لتاريخنا القومي من أجل فهم الحاضر ورصد خطي المستقبل, وكسر العديد من التابوهات المحرمة في تاريخنا بحثا عن تاريخ أكثر ديمقراطية.