الاحتفال والاحتفاء بمرور مائة عام على ثورة 1919 المصرية، ليس حدثا بروتوكوليا أو ترفيهياً، بل يقع فى صميم عملية إحياء الذاكرة الوطنية واستعادة الثقة فى مقدرات الشعب المصرى وقدرته على صنع تاريخه وإضافة صفحات جديدة، وتذكر التاريخ لا يعنى إعادة إنتاجه أو تكراره، حيث يدخل ذلك فى باب المستحيل، وإنما يعنى استلهام دروسه واستخلاص العبر وتأكيد صلاحية الأهداف والغايات التى توختها هذه الثورة وصلاحيتها حتى الآن لأن تكون مرشداً للعمل الوطنى، رغم تغير الظروف والمستجدات وظهور العديد من التحديات لم تكن موجودة من قبل، ذلك أن التاريخ رغم أنه ماض بما فيه من أحداث ووقائع، فإنه يمثل مخزون الخبرة الجماعية ومستودع القيم والأهداف التى تستمد منها الجماعة الإنسانية دوافعها الواعية وغير الواعية. بهذا المعنى تدخل ثورة عام 1919 بوصفها الحلقة الأساسية المكملة لما قبلها من حلقات النضال الوطنى والحركة الوطنية ضد الاحتلال ومن أجل الجلاء والكرامة والدستور، خاصة الثورة العرابية وما أعقبها من ظهور مصطفى كامل ومحمد فريد وغيرهما من رواد هذه الصحوة الوطنية، كذلك الأمر فيما يتعلق بتأثير ثورة 1919 على ثورة 1952، حيث حاولت هذه الأخيرة الاهتمام بالجانب الاجتماعى وتحقيق العدل فى توزيع الثروة الوطنية واستكمال تمصير الموارد الوطنية وهو الجانب الذى لم تسعف ظروف ثورة 1919 الخاصة بالاحتلال والجلاء والدستور وتحالف أحزاب الأقلية مع القصر للاهتمام به، وعلى هذا النحو تستمد ثورة 1919 وذكرى مئويتها أهميتها فى هذه الآونة من استعادة مبادئ المواطنة والمساواة بين المواطنين بصرف النظر عن دياناتهم ومعتقداتهم واستلهام مبادئ وأسس الحداثة والدولة الحديثة وفق خصوصية الحالة المصرية وتحقيق الاستقلال عن المخططات الغربية ودوائرها التى حاولت أن ترسم الطريق والمصير للمنطقة والدولة المصرية بمعزل عن إرادة الشعوب. وترتيبا على ذلك فإن ثورة1919 المصرية، تدخل تاريخ مصر الحديثة بوصفها الحدث التكوينى الأول لمصر المعاصرة والحلقة التأسيسية فى التاريخ المصرى الحديث، لأنها تأثرت بما قبلها وأثرت فيما بعدها ولا يزال هذا التأثير مستمراً رغم مرور قرن من الزمان، جسدت الثورة بامتياز لحظة اكتشاف مصر لذاتها ووعيها بهويتها كأمة مصرية واحدة وذلك نظرا لطبيعة المشاركة فى أحداثها وشمول هذه المشاركة لكل طبقات المصريين الفلاحين والعمال والأعيان والملاك والموظفين والرجال والنساء والشباب وغيرهم من مختلف طبقات المجتمع المصرى، كما أنها أى ثورة 1919 قد جمعت بين المسلمين والأقباط ويتجلى ذلك واضحا فى تشكيل الوفد المصرى الذى تزعم هذه الثورة ومثل رمزيتها والذى جمع بين المسلمين والأقباط، واعتلى الساسة المسلمون منابر الكنيسة كما اعتلى الساسة المسيحيون منابر المساجد، انخرط الجمع فى بوتقة الصهر المصرية المعبرة عن الأمة والقومية المصرية التى أدركت عمق الموحدات فى تاريخها ودخلت أبواب الحداثة السياسية دون فزع أو هلع أو توجس من ضياع الهوية والخصوصية بل لتدعيم هذه الهوية وتلك الخصوصية ضمن إطار جديد. كشفت الثورة أن المصريين لم يعرفوا الطوائف وأنهم شعب واحد يرتبط بالوطن والأرض، وقدمت ثورتهم نموذجاً للثورة على الاحتلال والاستعمار حاولت أمم عريقة كالهند فى عهد غاندى الاقتداء بها، وفى حين نجحت مصر فى التوحيد بين المسلمين والأقباط فى جدل الثورة على الاحتلال وما بعده، فشلت الهند فى الجمع بين المسلمين والهندوس. استلهمت ثورة 1919 التراث الفكرى والمستنير الذى سبق قيامها وتشكل تحت راية حرية التفكير والنقد والإبداع وقد مثل ذلك الركيزة الثقافية الأولى للثورة والتحصينات الخلفية العميقة لاندلاع شرارتها والتى تمكنت من إعطاء دفعة قوية للمناخ الفكرى والثقافى والتنويرى والذى حدد معالم الفكر المصرى الحديث فى السياسة وفى الاقتصاد ومنظومة القيم التى ينبغى للمجتمع المصرى الاقتداء بها والنضال من أجلها. الفكر الإبداعى السابق للثورة وكذلك الفكر الليبرالى والمستنير الذى لحقها، هما اللذان حددا خريطة التطور السياسى لمصر الذى تمثل فى التعددية السياسية والليبرالية والحزبية والفكرية الذى ترسخ فى مصر منذ ثورة 1919 حتى 1952، رغم محاولات القصر وأحزاب الأقلية والاحتلال الذى قصر وجوده بصفة أساسية على منطقة قناة السويس بعد معاهدة 1936. قد يختلف المصريون حول العديد من التطورات والأحداث التى وقعت فى تاريخهم الحديث والمعاصر، ولكن يندر الاختلاف حول موقع ثورة 1919 ودورها فى تشكيل هوية ووجدان ووعى الأمة المصرية بوصفها حدثا تكوينيا وتأسيسيا ومتجذرا طبع التطور السياسى اللاحق لمصر بطابعه وأرسى المبادئ الأساسية والتأسيسية فى مسيرة هذا التطور حتى وقتنا الراهن ألا وهى مبادئ المواطنة والمساواة والدولة المدنية والتعددية وإبقاء الدين كعنصر موحد للأمة ضمن الموحدات التاريخية الكبرى فى تكوين الأمة المصرية، وبهذا المعنى فإن ثورة عام 1919 لم تكن حدثا عابرا مرهونا بزمانه وتوقيته وإنما حدث تاريخى عابر للزمان ويمثل مخزونا جامعا للقيم التى ينبغى الاسترشاد بها. يحفل التاريخ عادة بأحداث كثيرة ومتنوعة ولكن القليل منها هو الذى يشتمل على مبادئ وقيم ملهمة، ودروس وعبر بناءة، عابرة للزمان وتنزع نحو الخلود وتستقر فى الوعى والضمير وتمثل مرجعية وطنية ومصدرا للإلهام، كذلك كانت ثورة 1919 ولا تزال. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد