هل يمكن أن ينسى الإنسان أمه؟ أفزعنى مجرد أن كتبت على الورق هذا السؤال السيئ النية.. الأسود الطالع.. الخبيث الطوية والأهداف.. والمقاصد.. ولأننى عشت حتى الآن الحياة بمرها قبل حلوها.. بوجهها القبيح قبل وجهها الصبوح المشرق البسام.. فإن جوابى عن هذا السؤال السيئ المقاصد الذى يفزع ملائكة السماء ويشغلها عن التسبيح بحمد الله وشكره.. ولو هنيهة أو برهة أو حتى مجرد همسة. فجوابي: نعم حدث ويحدث.. وسوف يحدث مادام على الأرض يحيا ويعيش هذا الإنسان الذى خلقه الله لكى يملأ الأرض خيرا وشبعا والسماء لحنا والدنيا كلها غناء وتغريدا ورحمة وحمدا لله تعالى على نعمة الحياة وحدها التى تكفى لكى يسجد الإنسان لله صلاة وتسبيحا حتى قيام الساعة.. فإذا به يقلبها مأتما وعويلا..
وسأترك لصديق الدرب والطريق.. صاحب أعظم الكتب للبشرية جمعاء والذى اسمه أنيس منصور الذى ترجم وقدم لنا وللمكتبة العربية أكثر من ألف كتاب وكتاب فى مقدمتها: العظماء مائة أولهم محمد.. كما قاله لي: نعم.. وأنا شاهد على هذه الواقعة التى زلزلت الأرض والسماء وألهت حملة العرش عن تسبيحهم بحمد الله وشكره.. ودعنى أقص عليك ما حدث بالضبط.. أنيس منصور يحكي: {{كنت فى زيارة صديق لى.. يشغل مركزا مرموقا فى الدولة.. وعندما وصلت إلى باب الفيلا التى يقيم فيها مع أسرته.. وجدت سيدة مُسِنَّة برفع الميم وكسر السين تجلس على عتبة الفيلا الفخمة الفخيمة.. وعندما شاهدتنى حاولت أن تقف.. وأسرعت بمساعدتها على الوقوف.. وسألتها: فيه حاجة يا أمي؟ قالت: ابنى ساكن هنا.. ولما ضربت الجرس ما حدش فتح لي! سألتها أنيس منصور يتكلم انتى والدة فلان باشا على سن ورمح.. يا محاسن الصدف.. لكن إزاى داهوا قاللى مرة إن أمه ماتت وهى بتولده! كادت السيدة المسنة تمسك فى خناقى بالكلمات: ولد خسيس.. ما أنا عايشة قدامك أهوه.. أضرب له الجرس أصل أنا موش طايلاه وقل له: أمك تحت.. أفتح يا ولد لأمك؟ رد عليَّ هو من خلال جهاز التكتافون المعلق بباب الفيلا الفخمة الفخيمة: وقال لي: فيه ايه يا أنيس ما تطلع؟ قلت له: الست الوالدة قدامى أهه.. أفتح يا راجل.. حد يسيب أمه على الباب كده وما يفتحلهاش الباب؟ جاءنى وجاءها أقصد أمه التى تجلس على عتبة الفيلا الفخمة الفخيمة صوت صاحبنا: أنا أمى يا عم أنيس ماتت وأنا صغير.. الست اللى قدامك خليها تمشى أحسن لها! {{ملحوظة من عندي: أنا أنقل هنا ما حدث: الموقف والحوار.. كما حدث بالضبط! ◘◘◘ ارتمت الأم التى أنكرها ابنها على صدرى أنيس منصور مازال يحكى لى وهى تبكى بكاء مرا علقما وأنا أحاول أن أواسيها.، فى موقف لا تصلح فيه الكلمات.. بعد أن أصبحت الدموع هى سيدة الموقف.. أسمعكم تسألون: والباشا صاحب أنيس منصور.. ماذا فعل؟ وجوابي: قولوا ماذا فعلنا نحن: أنيس منصور كما قال لي: تركت جهاز التكتافون مفتوحا.. وصوت صاحبى أو الذى كان صاحبى منذ تلك اللحظة الفاصلة.. مازال معلقا فى أذني: ايه يا أنيس ما تطلع.. أطلع لوحدك.. أسأل عمنا وكاتبنا الكبير الذى اسمه أنيس منصور: وطلعت لصاحبك ده؟ قال: قلت له عبر جهاز التكتافون: يا عزيزى اللى ما لوش خير فى أمه.. حيبقى له خير فى اللى اسمه أنيس منصور! وعملت ايه مع هذه الأم التى أنكرها ابنها؟ أنا أسأل أنيس منصور؟ عمنا أنيس منصور يجيب: مافيش.. أخذت هذه الأم التعسة معى فى سيارتى بعد أن ناديت على سائقى لكى يساعدها فى الصعود إلى جوارى.. وأوصلتها إلى منزلها فى آخر شبرا الخيمة.. وقلت لها: أنا من النهارده اعتبرينى ابنك! قالت وسط دموعها: أنا ما ليش أولاد أنا خلفت بس من النهارده بنات.. بناتى اللى شايلنى فى عينهم.. وربنا يسامحه بقي! السادات - أنيس منصور
◘◘◘ سألت عمنا وتاج راسنا الذى اسمه أنيس منصور بسؤال أعرف انه يدور فى أذهانكم: وماذا فعل أنيس منصور مع صديقه الذى أنكر أمه؟ وجوابه لى كان: لقد قاطعته عملا بالمثل الذى يقول: اللى ما لوش خير فى أهله.. لا يعاشرك ولا تعاشره قلت له: بس كده؟ قال: لا.. لقد كان موعدى معه بعد لقائى بصاحبنا الذى أنكر أمه.. قلت: تقصد أنور السادات شخصيا؟ قال: نعم لكى أعرض عليه بروفات كتابي: أيام مع السادات.. لكى نقرؤه معا.. حتى لا أقع فى أى خطأ تاريخى.. أو أى حدث أو حوار أو حديث لا يريد هو أن أقحم اسمه فيه.. وقد سألنى الرئيس أنور السادات أنيس منصور مازال يتكلم أتأخرت ليه يا أنيس؟ وكنت قد تأخرت على موعده.. بعد أن صحبت الأم التى أنكرها ابنها صاحب الشان والشنشان.. ولم يسمح لها بدخول داره.. إلى منزلها المتواضع فى آخر شبرا الخيمة.. وقلت لها بعد أن ودعتها: ما تزعليش يا أمى.. اعتبرينى زى ابنك من النهارده! بكت الأم يومها.. وبكيت أنا.. وبكى سائقى الخاص يومها.. وقالت الأم بين دموعها: حسبى الله ونعم الوكيل حسبى الله ونعم الوكيل فى ابنى ضنايا وموش عاوزه قلبى يغضب عليه ولا أدعى عليه.. ده برضه اسمه ابني! ◘◘◘ قلت لعمنا وتاج راسنا الذى اسمه أنيس منصور فى خبث الصحفيين الكبار: لكن ما قلتليش يا عمنا الكبير ما قلتش للريس السادات أى حاجة عن صاحبنا هذا الذى أنكر أمه؟.. وحكيت له سبب تأخرك على موعده؟ قال: الرئيس السادات طول عمره من يوم ما مسكت رئاسة تحرير مجلة أكتوبر التى يعتز بها هو.. لأنها تحمل اسم نصر أكتوبر العظيم الذى صنعه وحققه وعبرت به مصر الهزيمة كما وصفها أديبنا الكبير توفيق الحكيم.. وهو يحب المكاشفة والمصارحة.. ولا يحب اللف والدوران.. قلت له: يعنى اضطررت حضرتك تحكى له السبب الحقيقى وراء تأخيرك عن موعده. قال: أيوه.. ويومها زى ما أنا فاكر.. كان يتمشى فى حديقة قصره المطل على النيل فى الجيزة، وقالت لى يومها على ما أذكر زوجته السيدة جيهان السادات: استنى بقى.. الريس واخد ابنه جمال وراه على العجلة وبيلف الجنينة بتاعة القصر.. وجاء الرئيس السادات وهو يتصبب عرقا.. وقال لى أنيس منصور يحكي: اتأخرت نص ساعة يا أنيس؟ أنيس منصور يرد: أصل يا افندم.. حصلت حاجة كده موش مضبوطة.. هى اللى أخرتني! بفضوله الذى لا ينتهى سألنى الرئيس السادات ضاحكا هذه المرة: وهو فيه حاجة تأخرك عليا يا أنيس؟ أتدخل أنا بقولي: وطبعا حكيت للرئيس السادات حكاية صاحبنا الذى تنكر لأمه! سكت هنيهة وقال: أيوه قلت له من غيظى من صاحبنا الذى تنكر لأمه فى آخر العمر! أكاد أسمعكم أنتم تسألون: وماذا فعل الرئيس السادات؟ وأقول لكم: الله هو الذى فعل.. لم يظهر اسم صاحبنا صاحب واقعة انكاره لأمه.. فى أى حركة وزارية أو غير وزارية.. والأعجب والأغرب أنه كان يسأل كل من حوله: هو فى إيه الريس يقصد السادات نسينا واللا ايه؟ يجيء الجواب على لسان عمنا وكاتبنا الكبير: الله ينسى من ينساه هو موش فاكر عمل ايه فى أمه؟ ◘◘◘◘ حكت لى سيدة فاضلة تشغل مركزا مرموقا فى الحكومة المصرية وطلبت منى ألا أذكر اسمها.. ولا أين تعمل منعا للقيل والقال وكثرة السؤال.. قالت: إن جارة لها كانت صديقة لها وعشرة عمر وجيرة ومحبة وزيارات فى المناسبات.. وسلامات من الشبابيك والبلكونات.. وتفرقت بهما الأيام.. وأنجبت صاحبتنا أولادا وبناتا تخرجوا فى أحسن الجامعات وتزوج من تزوج وأنجب من أنجب.. وخرج الأولاد والبنات من البيت الكبير.. كل فى طريق.. وكل واحدة استقلت بحياتها.. وأصبح البيت الكبير خاليا إلا من هذه الأم الحنون.. وكانت هذه الأم تمضى الساعات خلف نافذة البيت تنتظر دون جدوى زيارة ابن من أبنائها أو ابنة من بناتها بالساعات ولا أحد يجىء ولا أحد يطرق الباب.. حتى فى الأعياد والمواسم لا أحد يزورها أو يسأل عنها.. وكنا نحن جيرانها ندعوها إلينا لكى تشاركنا فرحة المناسبات السعيدة وفكرت أنا.. وقلت لنفسي: روحى يا بنتى اسألى عن الست جارتنا.. وطرقنا الباب مرارا وتكرارا ولكن دون مجيب.. وللحق خفنا بعد شهر كامل أن يكون مكروه أصابها.. فاتصلنا بابنتها الموظفة فى مكان مرموق.. التى قالت لنا إنها لم تشاهدها ولم تحادثها ولو تليفونيا منذ نحو شهر كامل.. وجاءت الابنة وفتحت الباب لتجد أمها ملقاة فى الصالة وقد فارقت الحياة.. وجاء الطبيب الذى يعلن الخبر الأسود.. هذه الأم ماتت منذ شهر كامل يعنى الست أم البنات والأولاد.. لم يكلف واحد منهم نفسه مجرد السؤال عن أمه أو عن أمها.. حتى لقيت وجه رب كريم وحيدة.. وربما كانت تحتاج إلى علاج سريع.. ولكن كيف أيها السادة فى هذا الزمان والجحود ونكران الجميل هما سيدا الموقف. واحزنى يا كل أمهات الأرض! الأم التى أنكرها ابنها كما تخيلها الرسام الكبير فواز ◘◘◘ خلص الكلام.. وخلص الحكى.. لكن لم تخلص ولم تنته حكايات وحكاوى الزمان فى من نسى أمه.. ومن نسى أن له زوجة وأولادا.. ومن نسى أهله.. ومن نسى وطنه ولم يعد يزوره إلا فى المواسم والأعياد الرسمية.. ولكن ذلك حديث آخر -------------------------------------------- ◘◘.. وقالت الأم بين دموعها: حسبى الله ونعم الوكيل حسبى الله ونعم الوكيل فى ابنى ضنايا وموش عاوزه قلبى يغضب عليه ولا أدعى عليه.. ده برضه اسمه ابني! ◘◘