«لقد خسرت بريطانيا سمعتها الدولية بسبب البريكست». بالأبيض والأسود يصور الدبلوماسى البريطانى الكبير اللورد روبن رينويك، «دبلوماسى مارجريت ثاتشر المفضل»، الأوضاع فى بريطانيا اليوم فى كتابه «لست دبلوماسيا تماما». الكتاب، وهو حصيلة عمله الدبلوماسى كسفيرلبريطانيا فى عواصم عدة من بينها واشنطن خلال عهدى الرئيسين الأمريكيين الأسبقين جورج بوش الأب وبيل كلينتون، يرصد ضمن ما يرصد مخاوف رينويك من كيف تتجه الدبلوماسية البريطانية اليوم نحو حافة الهاوية بسبب «البريكست المتخبط» و«ثرثرة الصالونات» غير المسئولة التى أفقدت بريطانيا احترامها على المسرح الدولي. وكثيرون ليسوا بحاجة إلى أن يحدد اللورد رينويك أسماء بعينها فهواة الثرثرة المحرجة كثيرون من وزير الخارجية السابق بوريس جونسون الذى قال: إن الأتحاد الأوروبى «لن ينال مليما واحدا من بريطانيا»، إلى كبير مفاوضى البريكست اوليفر روبنز الذى سرب استراتيجية الحكومة البريطانية خلال جلسة فى حانة فى بروكسل، مرورا بوزير التجارة الدولية ليام فوكس الذى قال: إن مفاوضات البريكست «ستكون الأسهل فى العالم». وبرغم تعثرهم الدبلوماسى لم يحدث شيء لهؤلاء. فجونسون استقال من نفسه طواعية. وفوكس وروبنز ما زالا فى منصبيهما. وهذا يغضب اللورد رينويك: «إذا فعلت مثل روبنز، كانت ثاتشر ستطردنى من منصبى قبل أن استقل الطائرة من بروكسل إلى لندن». كل هذا مصدر إحراج كبير لبريطانيا وسمعتها وصورتها، وذلك حتى دون أن نذكر الحرج المتواصل الذى تسببه رئيسة الوزراء تيريزا ماى بسبب «حالة الإنكار» التى تعيش فيها بشأن احتمالات تمرير صفقتها، ثم تراجعها الدائم عن مواعيد تقديم اتفاقية الخروج من الاتحاد الأوروبى أمام البرلمان للتصويت عليها، حتى باتت مواعيدها أشبه ب«الفجر الكاذب». اللورد رينويك، يعد واحدا من رموز الدبلوماسية البريطانية وشغل أيضا منصب سفير فى جنوب إفريقيا عندما كان نظام الفصل العنصرى يتهاوي، وقبل ذلك ساعد مارجريت ثاتشر أيضا فى التفاوض على تخفيض ميزانية بريطانيا فى الاتحاد الأوروبي. وقد بدأت مسيرته فى وزارة الخارجية فى أوائل الستينيات عندما تعلم اللغة العربية وبرع فيها، وأصبح جزءا من الجنة التى تتمحور حول الشرق الأوسط. وفى رأى اللورد روبن رينويك،البريكست فى أمس الحاجة لشخصية مثل ثاتشر، فتيريزا ماى «ضعيفة» و«تحيا بالأمل» و«تعيش بالتمنيات». وثاتشر كانت على النقيض من كل هذا. ويوضح رينويك أنه لو كانت ثاتشر حية ورئيسة للوزراء اليوم فإنها كانت ستحاول إصلاح أعطاب الاتحاد الأوروبى أولا. «كانت ستبذل جهدها أولا لإصلاح الاتحاد الأوروبى وتغيير مساره. وكانت ستحصل على دعم كبير من الكثير من دول الاتحاد الأوروبى الذين لديهم تحفظات على توسع المشروع الأوروبى سياسيا وعسكريا، لأن ما يحدث هو تركيز السلطة فى بروكسل على حساب الحكومات والبرلمانات القومية. ثاتشر كانت ستحاول أولا استغلال عدم الرضا المتفشى وسط كثير من دول الاتحاد الأوروبى لإصلاح المسار. كانت ستخوض معركة من أجل الاتحاد الأوروبى وهذا ما لم يفعله رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون ولا تيريزا ماى طبعا». ويوضح اللورد رينويك أن ثاتشر رغم عدم تحمسها لتوسيع سلطات وصلاحيات الاتحاد الأوروبى على حساب البرلمانات والحكومات القومية، إلا أنها كانت من أشد المؤمنين بأهمية الاتحاد الأوروبى ودوره فى تقريب دوله من بعضها البعض، هذه الدول التى خاض بعضها حروبا، مثل بريطانياوفرنسا، استمرت مائة عام. لكن الاتحاد الأوروبى ليس كتلة واحدة وهناك تيارات وأفكار متعددة داخله، وبريطانيا ليست مركز الثقل فيه بل فرنساوالمانيا، وبالتالى كان من الممكن أن تفشل ثاتشر فى إصلاح الاتحاد الاوروبى أو تغيير مساره كما فشل ديفيد كاميرون. وهذه نقطة يعترف اللورد رينويك بها. لكنه يوضح:«إذا ما فشلت ثاتشر فى مساعيها لإصلاح مسار الاتحاد الاوروبى فى القضايا التى تعد من الخطوط الحمراء بالنسبة لبريطانيا مثل جيش أوروبى مشترك مثلا، كانت ثاتشر ستقول للناخبين البريطانيين: ربما ينبغى أن نفكر فى ترك عضوية الاتحاد الأوروبي». لكن رينويك يشير إلى أن ثاتشر كانت ستأخذ مسارا مخالفا تماما عن السياسيين البريطانيين، خاصة السياسيين من حزب المحافظين الحاكم. فخلال حملة الاستفتاء على عضوية بريطانيا فى الاتحاد الأوروبى 2016، هون كل السياسيين من مؤيدى الخروج من صعوبات «فك علاقات الارتباط» بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وهى علاقات استمرت أكثر من 40 عاما. ووعد هؤلاء السياسيون الشعب البريطانى بأسهل مفاوضات فى التاريخ، وبالعسل واللبن بعد الخروج، والاحتفاظ بكل مزايا العضوية الحالية وكل مزايا الخروج فى الوقت نفسه. بالنسبة لرينويك «مارجريت ثاتشر ما كانت لتفعل هذا. ثاتشر لم تكن من أصحاب التفكير بالتمني، أو الاعتقاد بإمكانية حدوث الشىء لمجرد الرغبة فى حدوثه. وهى على عكس أنصار البريكست لم تكن لتقول ان الخروج سيكون أمرا سهلا. بل كانت ستقول إنه أمر صعب جدا، ومكلف جدا، وطويل جدا، بغض النظر عن أى مزايا أو مكاسب مفترضة لاحقا». ويشن اللورد رينويك هجوما لاذعا على كل الطبقة السياسية فى بريطانيا اليوم «أكثر ما يضايقنى الأكاذيب التى تتردد. فالقول أننا سنستعيد السيطرة على قوانيننا وحدودنا غير صحيح. فسواء خرجنا بموجب خطة تيريزا ماى أو زعيم حزب العمال جيرمى كوربين (أى بقاء بريطانيا فى اتحاد جمركى مع الاتحاد الأوروبي) سنظل نخضع لقوانين ومعايير وترتيبات الاتحاد الأوروبي، لكن دون أن يكون لنا صوت أو تأثير لأننا سنكون غادرنا العضوية. سيكون بريكست بالاسم فقط». ويفند رينويك «الأوهام» التى يرددها معسكر الخروج حول مزايا ترك الاتحاد الأوروبى ومن بينها أن بريطانيا سيكون بمقدورها توقيع اتفاقيات تجارة حرة مع كتل تجارية أخرى فى العالم، موضحا: «المانيا وهى داخل الاتحاد الأوروبى لديها اتفاقيات تجارية مع كل العالم. عضوية الاتحاد الأوروبى لم تمنعها من هذا. بريطانيا تحصل على أكبر حصة من الاستثمارات الأمريكية فى الاتحاد الأوروبي، وكنا أيضا نحصل على أكبر حصة من الأستثمارات اليابانية فى الاتحاد، لكن هذا لأن بريطانيا عضوة فى الاتحاد الأوروبى والأسواق مفتوحة دون حدود أو تعريفة جمركية أو تفتيش. لكن عندما نغادر سيتراجع هذا. اليابان بالفعل أعلنت تقليص استثماراتها فى بريطانيا خاصة فى قطاع صناعة السيارات بسبب غموض الأوضاع بعد البريكست». ولا تقتصر نقمة رينويك على الطبقة السياسية البريطانية، بل تمتد لأوروبا وأمريكا، وتشمل الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون «الذى يريد جيشا أوروبيا موحدا لمواجهة روسيا والصين وحتى امريكا»، والمستشارة الألمانية انجيلا ميركل «التى تنتقد خروج الأمريكيين من سوريا. ما الذى فعلته ميركل بالضبط من أجل سوريا؟ لم تقدم أى مساهمة»، والرئيس الامريكى دونالد ترامب «الذي يمثل صورة كاريكاتورية عن نفسه، لكن هذا الكاريكاتير أصبح مضحكا بشكل مبالغ فيه». ويتذكر رينويك أنه عندما اختارته ثاتشر سفيرا لبريطانيا فى جنوب إفريقيا خلال فترة الفصل العنصرى ونيلسون مانديلا ما زال فى السجن قالت له: «سأرسلك إلى جنوب افريقيا، فأنت لست دبلوماسيا تماما» وكانت هذه مجاملة كبيرة اعتز بها رينويك من حينها إلى الأن. فالأوضاع لم تكن تحتاج إلى «دبلوماسى تقليدي» بل أكثر من هذا. فثاتشر كانت تحاول الموازنة بين مصالح بريطانيا، وبين الضغط على نظام الفصل العنصرى فى جنوب افريقيا لإطلاق مانديلا عبر فرض عقوبات اقتصادية. وفى النهاية أطلق سراح مانديلا وزار لندن للقاء ثاتشر فى «10 دواننج ستريت» وتجمع الآلاف حول مقر الحكومة من أنصار الزعيم الإفريقي. وقبل أن يدخل مانديلا لمقابلة ثاتشر، قال لها رينويك:«لا تقاطعيه. لقد انتظر 27 عاما ليحكى جانبه من القصة. تحدث مانديلا لمدة ساعة كاملة دون أن تقاطعه ثاتشر مرة واحدة. واستمر الاجتماع طويلا حتى هتف الصحفيون المنتظرون بالخارج: أطلقوا سراح مانديلا». يتذكر رينويك هذا ويأمل لو كان لدى تيريزا ماى ما كان لدى مارجريت ثاتشر من قدرات وأولها القدرة على الانصات والاستماع إلى الآخرين.