تُعد ملحمة جلجامش أحد أقدم وأعظم الملاحم فى تاريخ الحضارات، ومازالت تحتل مكانة رفيعة فى أدب الملاحم والبطولات على الرغم من أنها كُتبت قبل أربعة آلاف عام، وقد أطلق عليها عالم الآثار العراقى طه باقر - أحد رواد البحث فى هذه الملحمة- «أوديسا العراق القديم»، وقال إن أصحاب الملاحم الأسطورية الأخرى قد تأثروا بما جاء فى ملحمة جلجامش، وإن أعمال بطلها قد نُسبت إلى أبطال الأمم الأخري، مثل هرقل والاسكندر ذى القرنين والبطل أوديسوس فى الأوديسا. ملحمة جلجامش هى ملحمة شعرية دونت فى العراق فى عصر الحضارة السومرية باللغة الأكادية، بالخط المسمارى على اثنى عشر لوحًا طينيًا، اكتشفت عام 1853م بموقع أثرى فى العراق، وصدرت لها عدة ترجمات إلى اللغة العربية فى دول مختلفة، كما تُرجمت إلى لغات أخرى عديدة. وتعالج الملحمة قضايا تهم البشر فى كل زمان ومكان، مثل: الموت والحياة، والعدل والظلم، والحرية والعبودية، والخلود والفناء، وغير ذلك من القضايا التى تناولتها الملحمة بشكل فنى ودرامى رائع لايخلو من لمحات إنسانية، ودعوات لإعمال الفكر والبصيرة من خلال المواقف المتباينة، والتحولات الدرامية التى تحدث فى حياة البطل «جلجامش». ومن ناحية المستوى الإبداعي، فقد جذبت الملحمة اهتمام نقاد الأدب، حيث اعتبروا أنها تمثل أول عمل أدبى متكامل أنتجه الإنسان على مر التاريخ، بل إن بعضهم اعتبروها أفضل ما أنتج من أدب البطولات فى العصور القديمة، فاهتموا بالتعامل النقدى معها، فخرجت الكثير من الكتب والأبحاث التى تبرز المضامين الفكرية التى تحملها، وتحلل الأسلوب الأدبى الذى كُتبت به، وتقارنها بالملاحم القديمة الأخرى لتُظهر تميز «جلجامش» على هذه الملاحم. تدور الملحمة حول الملك «جلجامش» ملك مدينة أوروك السومرية الذى أحسن الإله العظيم خلقه، فكان ثلثاه إلهًا وثلثه بشرًا، لذلك فقد كان جسمه وقوته لا مثيل لهما، لكنه كان ظالمًا لرعيته، وبالغ فى ظلمه - رغم أنه كان يرعى المدينة ويحميها- فشكوا إلى مجمع الآلهة يطلبون منهم العون لرده إلى صوابه، فقرر الآلهة خلق ندٍ لجلجامش، ليدخل معه فى تنافس يلهيه عن ظلم رعيته، وعهدوا للآلهة الخالقة «أرورو» بالأمر، فقامت بخلق «أنكيدو» من قبضة طين رمتها فى البرية. وعاش أنكيدو فى الغابات حتى رآه أحد الصيادين، فذهب إلى جلجامش وحكى له عن قوته وبأسه، فدبر حيلة لجلبه إلى أوروك، ولما رآه الناس داخلًا المدينة، ووجدوه مماثلًا لجلجامش فى قوته، تجمعوا حوله، وظنوا أنه سيدخل فى تنافس دائم معه، وبالفعل يتحدى أنكيدو جلجامش، ودخلا فى صراع عنيف - اهتزت معه جدران المعبد المقدس- حسمه جلجامش الذى طرح خصمه أرضًا وشلَّ حركته. ولما هدأ غضب جلجامش، واستمع إلى كلمات المدح من أنكيدو، ومع إعجابه بقوته، أصبحا صديقين، وبهذه الصداقة تغير جلجامش، وأرخى قبضته عن رعيته، وبدأ يفكر فى أثر عظيم يتركه بعد موته، فقرر الذهاب إلى غابة «الأرز» فى أقصى الغرب، وقتل حارسها «خمبايا» الذى كلفه الإله «إنليل» بحمايتها، وكان بمثابة الشر فى الأرض، وكانت ألسنة اللهب تندفع من فمه، وتجلب أنفاسه الموت، ورغم خوف «أنكيدو» الذى كان قد رآه وهو يعيش فى الغابة، فقد ذهب الاثنان وتمكنا من قتله، بعد رحلة مليئة بالمغامرات والمخاطر، وذلك بمساعدة الإلهة شمش إلهة الشمس والعدل. وبعد العودة إلى أوروك تقع الآلهة «عشتار» فى حب جلجامش، وتطلب منه الزواج، لكنه يرفض ويواجهها بخيانتها لعشاقها، فتذهب غاضبة إلى «آنو» كبير الآلهة وتشكو له إهانة جلجامش لها، وطلبت منه أن يسلمها قيادة ثور السماء، لتهلك به جلجامش وأوروك، وهددت بأنه إذا لم يفعل فسوف تحطم باب العالم السفلى وتفتحه على مصراعيه لكى يخرج الموتى ويأكلوا مع الأحياء، فتحدث مجاعة عظيمة، فوافق «آنو»، وأنزلت عشتار الثور السماوى الى أوروك, لينشر الموت والرعب والفزع, حتى تمكن أنكيدو من صد هجومه، وساعده صديقه جلجامش الذى طعن الثور وقتله. لكن الآلهة قررت الانتقام منهما لقتلهما الثور السماوى وخمبابا، واختاروا أن يموت أنكيدو، الذى أصيب بالحمى بسبب لعنة الآلهة، ومات بين يدى جلجامش بعد عدة أيام، فحزن عليه بشدة، حتى إنه رفض دفنه على أمل أن يسمع بكاءه فيعود للحياة، لكن بعد عدة أيام سقطت دودة من أنف الجثة، فاستسلم جلجامش وقرر دفن جثمان صديقه. وأصبح جلجامش يفكر فى الموت، وقرر أن يبحث عن سر الخلود، وبدأ رحلة البحث عن الحكيم «أوتونابشتيم»، وهو المخلوق الوحيد الذى أنعمت عليه الآلهة بالخلود، وأسكنته - مع زوجته - فى جزيرة نائية، تفصلها عن العالم مخاطر رهيبة، وبحر تسبب مياهه الموت لمن يمسها، وبعد مغامرات عديدة، ينجح جلجامش فى الوصول للحكيم عن طريق أحد تابعيه وهو الملاح «أورشنابى»، وهو الوحيد الذى يستطيع عبور مياه الموت بقاربه. ويقص جلجامش ما حدث للحكيم، ويطلب منه أن يمنحه سر خلوده فى الحياة، فيكشف له أن الآلهة قرروا إرسال طوفان لإفناء كل أشكال الحياة على الأرض، لكن الإله «أيا» نزل إلى الأرض، وأخبر الحكيم بالأمر، وطلب منه أن يبنى سفينة هائلة «عرضها مثل طولها»، ويحمل فيها أهله، ومجموعة من أصحاب الحرف، وازواجا من الحيوانات والطيور ووحوش البرية، وبالفعل تمكن الحكيم «أوتونابشتيم» من إنقاذ بذرة الحياة على الأرض، فشعرت الآلهة بالندم على قرارها بعدما رأت ما فعله، وقررت منحه وزوجته الخلود. ويفاجئ الحكيم جلجامش بأنه لا يمكنه منحه الخلود، ويجرى له اختبارًا لإثبات ذلك، فيطلب منه قهر النوم - الموت الأصغر- لمدة ستة أيام وسبع ليال، ولكنه لا يتمكن من ذلك فيغرق فى سبات عميق طوال ستة أيام، ويصاب باليأس بعد فشله فى الاختبار، وبينما يستعد لمغادرة الجزيرة، إذا بالحكيم يخبره عن وجود نبات مثل الشوك ينبت فى المياه العميقة، ويجدد الشباب لمن أصيب بالشيخوخة، لكنه لا يمنع الموت، فيخوض جلجامش المغامرة، ويربط نفسه بحجر، ويغوص فى المياه العميقة، فيجتز النبتة، ويعود ليشكر الحكيم، ويقرر العودة إلى أوروك لإطعام كل شيوخها من النبتة فيعود لهم شبابهم، ويترك لنفسه ما يأكله عندما يصل لمرحلة الشيخوخة. ولكن فى طريق العودة يتوقف جلجامش عند بحيرة باردة الماء، وبينما يغتسل من مائها، تتسلل حية وتأكل النبتة، فينهار ويبكى بعد أن ضاعت آماله، فيعود إلى أوروك مع الملاح «أورشنابى»، وتنتهى الملحمة بوقوفهما أمام أسوار المدينة، ووصف جلجامش لها. ومن أبرز الملاحظات التى تنبه لها النقاد والمؤرخون، تشابه قصة الطوفان فى الملحمة مع قصة طوفان نوح - عليه السلام- إلى حد التماثل فى بعض أجزائها، ويُقال إن أول ألواح الملحمة التى تمت ترجمتها كان اللوح الحادى عشر الذى يحكى قصة الطوفان، وكان ذلك عام 1872 على يد جورج سميث الباحث فى المتحف البريطاني، وذهب البعض إلى ان القصة أضيفت إلى اللوح الحادى عشر نقلًا عن قصة الطوفان الموجودة فى ملحمة اتراحسيس، بينما قال آخرون إنها تعود إلى حادثة وقعت فى الجزء الجنوبى من العراق، أى فى السهل الرسوبى فى العهد المسمى «جمدة نصر» نحو عام 3200 قبل الميلاد