لسنا بحاجة إلى مناسبة لمحاورة د. محمد عناني، فهو علم يُشار إليه بالبنان خصوصا فى مجال الترجمة، ولا تغيض بحارُه، ووجوده بيننا نحن المصريين مدعاة للفخر . فى بداية حوارى معه بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة بادرنى قبل أن أبدأ حوارى قائلا: «.. قضية الساعة اللغة العربية، أنا لا أعارض أى تعديل فى النظام التعليمي، فليفعلوا ما يشاءون، من حيث الوسائل الالكترونية أو التقنية، كل هذا مقبول، أما التحول من اللغة العربية إلى لغات أجنبية، فهذا ما لا أقبله». فعلمت أن الرجل فى فمه ماء كثير! د.عنانى فى حواره جدد دعوته إلى استعادة الثقة فى تراثنا الذى يراه كنزا ثمينا أعرضنا عنه، وشرب منه هو حتى الثمالة! نعلم أنك قارئ نهم للتراث العربى وأنت المتخصص فى اللغة الإنجليزية وآدابها؟ أجدادنا سبقوا العالم كله باللغة العربية، العرب والمسلمون وضعوا أسس العلم الطبيعى فى أوروبا، وترجمت أعمالهم من العربية إلى اللاتينية، ودرسها كل طالب علم فى أى مكان فى أوروبا كل هؤلاء الباحثين اعتمدوا على نصوص مترجمة من العربية إلى الإنجليزية أو اللاتينية أو اليونانية أحيانا الحسن بن الهيثم هو من وضع أسس الرياضيات الحديثة، والخوارزمى اشتق ما سمى ب «لوغاريتمات»، جابر بن حيان فى الكيمياء، الرئيس ابن سيناء فى الطب، ابن النفيس اكتشف الدورة الدموية، والفارابى .. والقوائم تطول، ولا أنسى الدرر فى رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء «4 مجلدات فيها أسس علم الهيئة أو الهندسة بالعربية ». أقول ذلك لأنه يهمنى أن يستعيد القارئ العربى ثقته فى لغته، ويوقن أن اللغة العربية ليست ضد العلم. كيف نستعيد ثقتنا فى لغتنا؟ أن نقيم توازنا بين لغتنا القومية واللغات الأجنبية كلها، الطالب لابد أن يستوعب لغته القومية أولا، لأن هذا هو سر عظمة الأمم الأوروبية. كيف ترى ظاهرة تعليم الأطفال لغات أجنبية فى سن مبكرة جدا «3 سنوات مثلا»؟ خطر شديد، لأنها تؤثر على إتقانه، والتفكير بلغتهم القومية.نحن نواجه مشكلة لم تواجهها الأمم الأخري، وهى أننا نتكلم لهجة عامية، ونكتب لغة فصحي، هذه الازدواجية تفرض علينا أن نعلم جميع أبنائنا اللغة الفصحى فى سن مبكرة . ما يتردد فى الإعلام من أن الطريقة «المودرن» للعلم هى معاداة ومعارضة الحفظ والتلقين، وأن الناس لابد أن يفكروا بدلا من أن نحفظ، وأنا أريد أن أقول العكس هو الصحيح، فأنا لا أستطيع أن أفكر إلا إذا كنت أعرف اللغة التى أفكر بها. كيف أعرف اللغة ؟ بأن أحفظها طفلا، ولا أطالب الجميع بأن يذهبوا الى الكتاتيب كما فعلت أنا، ولكن لا أقل من أن يسمعوا القرآن ويفهموه، يسمعوا الحديث ويفهموه، يسمعوا الشعر العربى ويفهموه. فتتكون لديهم ذخيرة من الكلمات الأساسية باللغة العربية الفصحي، بحيث يستزيدون مما يسمى ب «الفصحى المعاصرة ». من غير حفظ لا يوجد لغة عربية، لابد أن نحفظ اللغة؟كيف حل الجيل السابق تلك المعضلة؟ بجعله الإنتاج الأدبى متداخلا مع الإنتاج الفنى والعلمي، أم كلثوم كانت تغنى شعر أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وعزيز أباظة. عندما يسمع «الطفل» الأنغام الجميلة والألفاظ الحلوة سيسأل عن معانيها وتترسخ فى أعماقه لغة بديعة فصيحة وأم كلثوم لا تخطئ فى اللغة العربية، إلى الآن لو استعصى على تشكيل عين المضارع التى تمثل مشكلة فى نطقها الصحيح عمل بالكسر، وفعل بالفتح. أم كلثوم حجة فى اللغة العربية، أخطأت مرة واحدة فى فيلم «سلامة» «شعر طاهر أبو فاشا»: قالوا :أحَبَّ القَسُّ سلاَّمةً وهْوالتَّقِيُّ الوَرِعُ الطاهِرُ كأنَّما لم يَدْرِ طَعْمَ الْهوَى والحُبّ ِ إلاَّ الرجُلُ الفاجِرُ أم كلثوم قالت والحبُ بضم الباء، فلما عرفت الخطأ، قامت بإنشاء أسطوانة بعد الفيلم ونطقت الحب بكسر الباء، وهو الصحيح، اليوم نسمع كلاما لا يمت للعربية بصلة.. يتغنى الناس ب «التابلت»، وهو وسيلة، يجب ألا نجعله إلها، الخطورة عندنا فى مصر أننا أو بعضنا يختلط عليه الغاية بالوسيلة، فيتصور المال وهو وسيلة غاية.. هذا خطر مؤكد، أنا أستعين بالكومبيوتر طيلة الوقت فى الحصول على المعلومات التى لا نحصل عليها إلا بشق الأنفس.الاعتماد على التابلت سيقضى على اللغة العربية قضاء مبرما، وسنوجد طلابا لديهم علم وليس لديهم لغة، لأن التابلت لم يجهز لتعليم أو ترسيخ الإحساس باللغة القومية الفصحي. ما أسباب انبهارك بالجاحظ تحديدا؟ الجاحظ أول نموذج للكاتب العلمى العربي. ندرس العلوم الغربية بنوع من الانبهار، ولو أحطتنا بتراثنا علما، لكنا أقل انبهارا بالغرب وأكثر ثقة فى النفس. هل هى عقدة نقص؟ عن نفسى ليس لدى عقدة نقص من الغرب أبدا، لأنى تعلمت لغتى العربية جيدا فى «الكتاب»، عندما يعرف الطفل لغته الأم جيدا يصبح واقفا على أرض صلبة. لابد أن نعيد للعربية مكانتها وحبها فى قلوب الناشئة، لابد أن ينشأ الجيل الجديد محبا للعربية. كيف ترى اللغة العربية على لسان طلبتك الآن؟ مأساة! أين مريدو د. عنانى فى الترجمة، وما أسباب عدم وجود صالون دورى لك؟ أنا أربى جيلا جديدا يحب الترجمة ويحرص عليها، وينجح فيها، وعددهم نحو عشرين مترجما وهم فى كل مكان، بعضهم «بياكل عيش فى بلاد عربية» ويكسب رزقه ، وفى قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة لدى تلامذة أصبحوا أعلاما فى الترجمة، مثل راندا أبو بكر، شيرين أبو النجا، هبة محمود عارف، خالد توفيق، لبنى عبد التواب يوسف، أميمة إبراهيم خليفة، مسعود عمر، محمود الشريف، محمد الغازى ، وآخرين، لا أريد أن أنسى أحدا، وأنا فخور بعملهم، وعندما أعطى أحدا كتابا أتابعه. ما الكتاب الذى تراه درة أعمالك الإبداعية؟ كتبت المسرح والشعر والنثر، ورواية واحدة هى «الجزيرة الخضراء» وقد نفدت، وفخور بها لأننى أسجل فيها حياتي، بلدى مسقط رأسى وموطنى «رشيد». أهم شيء فى تلك الرواية أننى سجلت فيها تحول بلد من الزراعة الخالصة إلى الصناعة ، ثم ركوب البحر، وهى المهنة التى باتت تمثل «بيزنس كبير». وما الكتاب الذى تراه درة أعمالك المترجمة؟ أعمال شكسبير كلها «24 مسرحية» فضلا عن ترجمتى للسونيتات الكاملة «مائة وأربع وخمسون سونيتة » مع مقدمة وحواش. وفخور أننى ترجمت الشعر نظما، ونوعت البحور كلها وهذا جديد، لأن معظم من ترجم الشعر فى الماضي، كان دائما يختار بحرا واحدا يرتاح إليه. وقد ترجمت الفردوس المفقود «لجون ملتون» 11 ألف بيت . هل أسعفتك اللغة العربية لترجمة الشعر الإنجليزى؟ اللغة العربية من أقدر لغات الأرض على تمثيل جميع حالات الإنسان الشعورية. بكل أسف نحن نهمل كنوز العربية ولم نقدرها حق قدرها. وأنت الآن فى الثمانين وقد احتفى الشعراء العرب بتلك السن، فقال أحدهم إن الثمانين وبلغتها.. قد أحوجت سمعى إلى ترجمان.. وقال آخر : سئمت تكاليف الحياة .. ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم.. كيف ترى الحياة فى الثمانين؟ جميلة جدا، لأنى أعيشها بقلب الأربعين. ما دمت أنظر إلى الغد، فأنا شاب، ما دمت أعمل فى شيء لم ير النور فأنا شاب. ماذا علمتك الحياة؟ علمتنى الحياة الدأب والعزيمة الصادقة، والإيمان بقدرتك كعربى يملك ناصية اللغة على فعل كل ما يريد. فى سيرتك الذاتية «واحات العمر» كان الجزء الثالث هو أقل الأجزاء حيوية؟ نعم، لأن الحياة فى مصر كانت أقل حيوية. أخيرا ماذا عن الغربة فى حياة د. عناني؟ مهمة جدا؛ لأن فى الغربة الإنسان يواجه نفسه ويواجه رسالته.. الغربة معناها: اعمل، وعندنا مثل يقول : القرش فى الغربة وطن، ولكن أنا أقول اعمل، فالعمل فى الغربة وطن.