حققت إسرائيل إنجازا تاريخيا كبيرا، فجر الجمعة قبل الماضى، بإطلاقها المسبار (بيريشيت) سفر التكوين بالعبرية- إلى القمر، بواسطة صاروخ أمريكى، لتنضم إسرائيل إلى ثلاث دول عظمى سبقتها إلى القمر، هى الولاياتالمتحدة وروسيا والصين، وسوف تتبعها الهند، وذلك حدث يبرز التفوق الإسرائيلى عالميا، بكل انعكاساته السلبية على دول الشرق الأوسط. وحسب وكالات الأنباء، فإن مهمة المسبار هى دراسة سطح القمر ومغناطيسيته، كما أنه يحمل كبسولة ستبقى على القمر للأجيال المقبلة، وتحتوى على أقراص تتضمن رسوم أطفال وأغانى عبرية والنشيد الوطنى الإسرائيلى ونسخة من التوراة. وقد تابع رئيس الوزراء نيتانياهو عملية الإطلاق الناجحة من غرفة المراقبة، وأعرب عن أمله فى أن يكون هناك من يخطط لرحلة مشابهة إلى المريخ!. اللافت أيضا أن هذا المشروع، وإن تم برعاية الدولة العبرية، فإنه تحقق بمبادرة وتمويل من القطاع الخاص، أى رجال أعمال إسرائيليين، فالمجتمع الإسرائيلى دأب على إعطاء الأولوية للبحث العلمى على ما عداه، إدراكا لخطورته وأهميته لمتطلبات الأمن القومى والتنمية والتقدم وكسر المنافسين والأعداء، فباتت إسرائيل حضانة بحجم دولة لشركات التكنولوجيا الراقية، ومن ثم يتدفق الدعم السخى للمؤسسات البحثية، ماديا ومعنويا، رسميا وشعبيا، إذ ينظر المجتمع، هناك، بتقدير لأصحاب العقول من العلماء والباحثين والفنيين والمفكرين والمبدعين، باختلاف تخصصاتهم. وتشير الإحصاءات الدولية إلى احتلال إسرائيل المرتبة الأولى عالميا، فى الإنفاق على البحث العلمى، بنسبة 5% من الناتج الإجمالى، ولديها 6 جامعات بين أفضل 500 جامعة فى العالم، وفاز 12 إسرائيليا بجائزة نوبل..والنتيجة الطبيعية أن إسرائيل (9 ملايين نسمة) تنتج 1% من المعرفة الإنسانية، أو مائة ضعف ما تنتجه الدول العربية ال22 مجتمعة (400 مليون نسمة). منذ قيام الدولة على الأراضى العربية المحتلة، عنوة واغتصابا، سعت «إسرائيل» لجعل نفسها شريكا لا غنى عنه، للقوى الغربية، لإخضاع المنطقة العربية وسحق مشاريع الاستقلال الوطنى. وللإنصاف، أدى الإسرائيليون هذا الدور الوظيفى التخريبى بكفاءة، فقد ارتكز الفكر الاستراتيجى للدولة العبرية على عقيدة التفوق على العرب مجتمعين، فى موازين القوى، تسليحا وتكنولوجيا، والتعاون من موقع الندية مع القوى الكبرى، واحتكار الخيارين النووى والفضائى بالشرق الأوسط. وكان استنبات العلم فى تربتها، وسيلة تل أبيب لإنجاز أهدافها، لأنها تدرك أن العلم قوّة تتيح للدول آفاقا هائلة، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، تجعل لها اليد الطولى، فى تحقيق أقصى قدر من المكاسب والمكانة على الساحة الإقليمية والدولية، وجذب الحلفاء وردع الأعداء، ولطالما عمل العقل الاستراتيجى الإسرائيلى على إعادة إدماج الكيان الصهيونى بالمنطقة من موقع القائد، قدم شيمون بيريز, أبوالبرنامج النووى ورئيس الوزراء ورئيس إسرائيل الأسبق, رؤيته لما سماه الشرق الأوسط الجديد، تقوم على دمج إسرائيل اقتصاديا مع دول المنطقة، بوصفها قاطرتها التكنولوجية وبؤرة قرارها سياسيا وأمنيا ولوجستيا، وتوظيف رءوس الأموال الضخمة لدى بعض العرب وفائض الأيدى العاملة لدى آخرين، باختصار تحويل تل أبيب مركزا مزدهرا فى شرق أوسط مشتعل بالأزمات. عمل الغرب وربيبته إسرائيل على وأد أى محاولة عربية للاستقلال التكنولوجى، أعلن أبا إيبان المفكر ووزير الخارجية الإسرائيلية الأسبق أن الوجود الإسرائيلى موضوع فى الميزان القائم بين الكم العربى والنوعية اليهودية. ومع أن علاقات القوة بين الطرفين تميل لمصلحة العرب، فى المساحة والموارد والموقع وغيرها، فإن أسرائيل تفوقت، بأن جعلت رأس الرمح فى المعركة هو البعد العلمى والتكنولوجى، لقد استطاعت، بجهد ذاتى ومعونة غربية، أن تنشيء اقتصاد المعرفة: بنية صناعية راقية وتقنيات عالمية، ومنتجات ذات قيمة مضافة عالية، 50% من صادراتها يأتى من قطاع العلوم والتكنولوجيا، كثير منها فى مجالات بالغة الحساسية على المستوى الاستراتيجى، كالأسلحة الذكية والأدوية والمعلوماتية وتحلية المياه والزراعة المتقدمة وغيرها. وأتاحت هذه الاستراتيجية لإسرائيل دعما غربيا لا محدودا، جعلها تفلت حتى الآن بجرائمها بحق الشعوب العربية، بل إن دولا مثل الصينوالهند وروسيا تخطب ودها، بحثا عما تحوزه من تكنولوجيات متقدمة غربية المنشأ، بكل تداعياته الاستراتيجية حاضرا ومستقبلا. كل ما سبق يلقى على عاتق مصر بما تملكه من عناصر القوة الكامنة مسئولية الانخراط فى السباق وتحقيق التوازن، بالتركيز فى ميادين التكنولوجيا الحيوية والأدوية والإلكترونيات والنانو وتكنولوجيا الفضاء، ولعله من يمن الطالع أن يتزامن إطلاق المسبار الإسرائيلى مع إطلاق القمر الصناعى المصرى (ايجيبت ساتA) بصاروخ روسى.. مصر تستطيع ما امتلكت العزم والإرادة!. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن