لم يكن الطربوش، حتى ثورة يوليو 1952، مجرد غطاء للرأس، بل رتبة، وقد دلفت بالأمس القريب إلى أقدم محل، تأسس منذ مائتى عام، لأعرف كيف تُفصَل المقامات والرتب، وكيف أن الطربوش ما زال يقاوم الانهيار. ما زال فيه رمق.. لقد أعرب الطربوش عن نفسه فى لقطة تلخص ما بقى منه.. قال لى د. محمود السيد سلامة ، الأستاذ بجامعة الأزهر: « كنت ألبس بدلة عادية حين هبطت مطار بوركينا فاسو، ولأننى لا أعرف الفرنسية وأريد أن أنهى أوراق خروجى ولا أجد من يساعدنى ، فقد اهتديت إلى أن أدخل الحمام وأستبدل الزى الأزهرى بالبدلة، وما هى إلا لحظات حتى تسابق القوم علىّ كأنى ضيف شرف قد حلّ على البلد كلها». قالها سلامة بفخر ومد يده يتحسس طربوشه كأنما يتحسس هويته، فيما كان عماد الطرابيشى يأخذ مقاس سلامة بعين ويكلمنى بالعين الأخرى عن مصطفى إسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد والحصرى والمنشاوى وغيرهم من مشاهير القراء الذين كانوا يترددون على محلها ويسلمون رءوسهم لأبيه، ليأخذ مقاسهم.. من الأسماء الكثيرة التى تملأ بطاقات التعريف فوق جدران المحل وتغطى زجاجه، من الآلة التى تلصق الصوف الجوخ على الخوص وتضوى شعلتها فوق شعار العهد الملكى، ستشعر أن عصورًا كاملة ترثى نفسها هنا، وأن مجدًا فى طريقه للاندثار، غير أنك ستحسّ بأن لا شىء يلفظ أنفاسه تمامًا، وأن الأشياء حين تستحيى وتتولى إلى الظل، إنما تتناسل بطريقة أخرى وتبث حضورها من جديد.