أنا سيدة تعدّيت سن الخمسين، ولى تجربة مريرة أردت بعد تفكير طويل إطلاعك عليها، عسى أن يستفيد منها قراؤك ومحبوك، فلقد نشأت فى أسرة متوسطة لأبوين متعلمين، وثلاثة أشقاء «ولدين وبنتين»، ومضت حياتنا هادئة، ولم تواجهنا أى مصاعب، وفور إتمامى تعليمى الجامعى تقدّم لى شاب من معارف أسرتنا طالبا الزواج، وجلست معه عدة مرات فى حضور أبى وأمى، حرصا على أن يكون بيننا حوار مباشر للتعرف على مدى قبول منا الآخر، ووجدتنى أميل إليه، وأبلغت أمى بموافقتى على الارتباط به، وسادت الفرحة عائلتنا الكبيرة، ومرت فترة الخطبة سريعا، ثم تزوجنا، وبدأنا معا حياتنا الجديدة بسعادة غامرة، وترقّى زوجى فى عمله، وأكرمنى الله بوظيفة فى شركة كبرى، وأنجبنا ولدا وبنتا، وقسّمت أنا وزوجى أوقاتنا بين رعاية ابنينا، وأداء أعمالنا، والقيام بالواجبات العائلية والمنزلية، والحق أنه شاركنى يدا بيد، وكان لى نعم السند والمعين، ولم ينغّص حياتنا شئ، ولم يدر بخلدى أن «الدنيا دوّارة»، وقد تدير لنا ظهرها، فى أى وقت، إذ انتابت زوجى بعض المتاعب الصحية، وخضع لفحوص عديدة، جاءت نتيجتها صادمة بأن زوجى مصاب بالسرطان، وأنه لا بديل عن العلاج الكيماوى، وتحدد له برنامج العلاج، وحصل على إجازة مرضية من عمله، وزاد العبء علىّ، وكثرت طلباته وآلامه، وتخلى أهله عن مؤازرتنا ولو حتى بزيارتنا، ومتابعة أحوالنا كما كانوا من قبل، واكتفوا بزيارات متباعدة، وفى كل مرة يتحسرون على حال ابنهم، وكأننى السبب فى مرضه، ولم أتحمّل هذا الوضع، فطلبت منهم أن يراعوه لأننى غير قادرة على خدمته بمفردى، وتركت المنزل فى لحظة انفعال، وذهبت إلى أسرتى، وحاولت أخذ ابنىّ معى لكن جدهم لأبيهم رفض تماما، أما زوجى فلم ينطق بكلمة واحدة، والتزم الصمت، وطالت فترة غضبى عند أهلى دون أن يفكّر فى الاتصال بى. وعرفت أن المرض اشتدّ عليه، فلعب الشيطان برأسى، وتصوّرت أن طلاقى منه سيجعلنى أعيش حياتى بلا متاعب، فأخذت تجاهله لى حجة لطلب الانفصال عنه، وأسررت إلى أمى بما فكّرت فيه، فلم تؤيدنى فى هذه الخطوة، وحذّرتنى من عواقبها، ونقلت ما دار بيننا إلى أبى، فحسم بقوله: «هذه حياتك، وتحمّلى تبعات قرارك»، وفهمت من طريقة كلامه، وما أعرفه من طباعه أنه لا يريد مصادرة حقى فى الاختيار بين الاستمرار مع زوجى بعد مرضه، أو الانفصال إذا كنت غير قادرة على الصبر فى الظروف الصحية التى يمر بها، وعزمت على الطلاق، وقبل أن أطلبه، طلقنى زوجى غيابيا، وأصرّ على بقاء ابنينا معه، وسلمنى عن طريق محام كل حقوقى، وبرغم حزن والدىّ على ما آلت إليه أحوالى، فإننى كنت مرتاحة فى قرارة نفسى أننى تخلّصت من كابوس جاثم فوق صدرى، وانقطعت كل صلتى بأسرة مطلقى، وأصبحت أرى ابنىّ كل أسبوع مرة واحدة بصحبة عمتهم، وعندما أسألهما عن أبيهما يقولان لى: «كويس»، وعن أخبارهما «كويسين»، وكأنهما تلقيا درسا من أهلهما بعدم الكلام معى فى أى موضوع، أو الاسترسال فى الحديث عن أبيهما الذى تخلّيت عنه فى محنته. ومر عامان على هذا الوضع، وذات يوم فاتحنى زميل بالعمل برغبته فى الزواج بى، وشرح لى ظروفه بأنه مطلق، ولديه ولد واحد يعيش مع أمه، وبرر انفصاله عنها بأنها لم تهتم بشئون البيت، وتسمع كلام أمها التى كانت تحرّضها عليه، إلى جانب شجارها الدائم الذى لا يتوقف فى كل صغيرة وكبيرة، وكم تمّنى أن تمضى حياته هادئة، لكنها أبت إلا أن تحوّل حياته إلى جحيم، فوجدتنى أجيبه بالموافقة على زواجنا، وزار أهلى وعقدنا قراننا، وانتقلت إلى بيته، وبدأنا حياتنا معا بلا متاعب ولا منغصات، وسعيت إلى استمرار التواصل مع ابنىّ، لكنهما ابتعدا عنى شيئا فشيئا، ثمّ غيرا هاتفيهما، وغابت أخبارهما عنى، فى الوقت الذى أخذ فيه زوجى ابنه من مطلقته فى حضانته، فذقت مرارة الحرمان من ابنىّ، ولمّا طال بعادهما، خرجت ذات يوم قاصدة منزل زوجى الأول، وطلبت من حارس العمارة إبلاغ ابنى بأن صديقا له يسأل عنه، فجاءنى، وما أن رآنى حتى أصابه الذهول، وظلّ صامتا، لم ينطق بكلمة واحدة، وبعد لحظات جاء أبوه من عمله، وعندما لمحنى نظر إلى الأرض، ودخل العمارة، وقد بدا وجهه نضرا، ولا تظهر عليه أى متاعب للداء العضال الذى أصيب به، فسألت ابنى عنه، فقال: «الحمد لله، بابا ربنا شفاه، وبقى كويس جدا»، ولا أدرى لماذا سكت وقتها ولم أعلّق بأى كلمة، وكأننى نادمة على انفصالى عنه، برغم أن حياتى مع زوجى الثانى كانت وقتها على ما يرام، وانصرفت عائدة إلى بيتى بعد أن طلبت من ابنى أن يتواصل هو وأخته معى، فأنا أمهما من باب الاطمئنان عليهما لا أكثر، ولم أخبر زوجى بهذا اللقاء، لكنى لم أنم تلك الليلة، وطاردتنى الكوابيس والهواجس، ولم تمض شهور معدودة حتى انتابتنى متاعب صحية شديدة، فدخلت فى دوامة الفحوص، وتذكّرت رحلة «والد ابنىّ» مع المرض، وإذا بها تتكرر معى، حيث أصبت بالداء العضال نفسه، وتدهورت صحتى سريعا، ولم تفارقنى صورته، وأنا خاضعة لجلسات العلاج بنفس الحجرة التى كان يعالج فيها، ولاحظت علامات الضيق على وجه زوجى الثانى، وراح يتحسس أخبار مطلقته، بما يعنى أنه يريد إعادتها إلى عصمته، وقد يتزوج بثالثة إذا رفضت العودة إليه، وبرغم مرضى تحاملت على نفسى، ولم أقصّر فى شئون البيت، لكن «الأنانية» التى أصابتنى من قبل انتقلت إليه، فطلّقنى، ولم أجد مكانا أذهب إليه سوى بيت أبى.. لقد تجرّعت المرارة نفسها، وأعيش أياما عصيبة، وأشعر أن نهايتى قد اقتربت.. صحيح أننى تعلمت الدرس، ولكن بعد فوات الأوان، فلقد غرّتنى الحياة، وتصوّرت أننى سأدفن نفسى مع زوج مصاب بمرض خطير، فأراد الله أن يكتب له الشفاء، وأن أصاب بالمرض نفسه، ومازلت أعانى آلامه الرهيبة، ونبذنى زوجى من حياته، فليته يتعلم من تجربتى الأليمة أن دوام الحال من المحال، وليفعل كل واحد ما يشاء، ولكن عليه أن يعى أنه كما يدين يدان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول: تغيب عن الكثيرين قاعدة عظيمة ذكرها الله فى كتابه الكريم فى قوله تعالى: «هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ» [الرحمن: 60]، وقال رسول الله «الخير لا يأتى إلا بالخير»، وهكذا الأمر «جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا» [النبأ: 36]، فالجزاء من جنس العمل، وهناك قاعدة ذهبية تقول: «من ترك شيئا لله عوّضه الله خيرا منه»، وينطبق ذلك على كل أمور الحياة، ولنتأمل قصة سليمان عليه السلام لما شغلته الخيل عن ذكر ربه مع أنها خيل جهاد، فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ، عوّضه الله الريح أسرع من الخيل، تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ، فتحمله وجنوده من الجن والإنس وعتاده فتهبط به وتصعد وتطير، رُخَاء بريح لينة طيبة، دون متاعب، والسفر قطعة من العذاب.. أيضا لما ترك الصحابة ديارهم وأوطانهم فى مكة وغيرها لله وقدموا مهاجرين إلى المدينة، وصبروا على نوى البعد، وألم الغربة؛ فأعقبهم الله فتح فارس والروم، وغيرها، وبوأهم فى الأرض بلادا عظيمة، وملكا كبيرًا، ولما احتمل يوسف الصديق - عليه السلام - ألم السجن فى ذات الله بوأه الله ملك مصر، وما أكثر الأمثلة لزوجات تحمّلن أزواجهن فى مرضهم، فعرفن طريق الراحة والطمأنينة طوال أعمارهن، ولا تكاد تخلو منطقة من سيدة عظيمة أو رجل عظيم لم يفارق أى منهما شريكه فى الحياة لمرضه، إلا وكان جزاؤه عند الله كبيرا. إن الجزاء من جنس العمل، سنة ربانية، وقانون يجب على الجميع أن يضعوه نصب أعينهم، فمن يتغذ بهذا القانون فهو يغذ نفسه تغذية إيمانية تحكم تصرفاته وتقوده نحو العمل بعدل، وألا يقوم بأى شيء لا يرضاه لنفسه والعكس صحيح، ولو علم الظالم بهذه القاعدة لكف عن ظلمه، ورضى بقضاء الله، وما قسمه له غنًى فى النفس وراحة للبال، على عكس من لا يرضى بما قسمه الله فإنه يكون على الدوام فى كدر وضيق، وشد وجذب مع نفسه، فالرضا يعنى سرور القلب بمر القضاء، وهو نعمة غالية وعبادة قلبية تغيب عن الكثيرين، ومن يفتقدها يشعر بالسخط والضجر، ولا يتلذذ بما منحه الله من نِعم، وفى هذا يقول النبى صلى الله عليه وآله وسلم: «وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ». إن الرضا يا سيدتى هو قبول حكم الله فى السراء والضراء، وما قسمه الله هو الخير كله، ولذلك قال الحسين بن على رضى الله عنهما :«من اتكل على حسن اختيار الله تعالى، لم يتمن غير ما اختار الله له». وفى بعض الأوقات يكون منع النعمة أو الخير فيه خير كثير وحكمة بليغه لا يفهمها إلا أولى البصائر، وقد فطن لهذا المعنى ابن عطاء الله السكندري، فقال فى حكمه: «ربما أعطاك «الله» فمنعك، وربما منعك فأعطاك، وإذا كشف لك الحكمة فى المنع عاد المنع عين العطاء»، وأمر المؤمن كله خير فى الضيق واليسر، وفى الحديث الشريف: «عَجَبا لأمر المؤمن! إنَّ أمْرَه كُلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْهُ سَرَّاءُ شكر، فكان خيرا له، وإن أصابتْهُ ضرَّاءُ صَبَر، فكان خيراً له». إن تحقيق صفة الرضا، يقتضى إجالة النظر فى أحوال الناس الآخرين؛ ليعلم المرء مقدار نعم الله عليه، التى قد يغبطه عليها الكثيرون، فإذا كان مريضا، فهناك من هم أكثر مرضا وألما منه، وإن كان يشعر بالحزن وكدر العيش، فإن هناك من هم أكثر كآبة وحزنًا منه! فليرض بما قسمه الله له، وليأخذ بالأسباب ثم يتوكل على الله»، والدنيا لا تكتمل لأحد، والحمد لله أنك أدركت خطأك منذ البداية، عندما لم تصبرى على زوجك السابق فى مرضه، فقد هُذّبت من الخطايا ونقيت من الذنوب، وليت مطلقك الثانى يدرك ذلك، فالحياة لا تكتمل لأحد، وكل مأساة تصيب المرء، هى درس لا ينسى، وأرجو من ابنيك أن يتواصلا معك، وأن يعينهما أبوهما على البر بك، فلقد كتب الله له الشفاء، وكان فضله عزّ وجل عليه عظيما، فليتعامل بنفس سمحة معك، وليدفع ابنيكما إلى التواصل معك، وتأكدى أن إحساسك بالذنب تجاه والد ابنيك، فيه تطهير لنفسك، وأرجو ألا تعيشى مع الذكريات الأليمة، فما مضى فات، ولك الساعة التى أنت فيها، أسأل الله لك الشفاء وراحة البال، وهو وحده المستعان.