اليوم.. «صحة النواب» تناقش موازنة الوزارة للعام المالي 2024-2025    إطلاق مبادرة «اعرف معاملاتك وأنت في مكانك» لخدمة المواطنين بسفاجا    المفتي يتوجه إلى البرتغال للمشاركة في منتدى كايسيد للحوار العالمي    بدء تسليم الأراضي السكنية المميزة بمدينة أسوان الجديدة.. 26 مايو    بعد التحديثات الأخيرة ل عيار 21.. سعر الذهب اليوم الثلاثاء 14-5-2024 في الصاغة    أسعار الفراخ والبيض في المنيا اليوم الثلاثاء 14- 5- 2024    "إكسترا نيوز" تعرض تقريرا عن تفاصيل مشروع الدلتا الجديدة    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الثلاثاء    سعر طن الحديد اليوم الثلاثاء 14-5-2024 في مصر.. كم يبلغ الآن؟    صحة غزة: حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي تتجاوز 35 ألف شهيد    مسئولون أمريكيون يكشفون استعدادات إسرائيل لاجتياح رفح    البيت الأبيض: بايدن يوقع قانونا يحظر استيراد اليورانيوم المخصب من روسيا    مصرع 12 شخصا وإصابة 60 آخرين بسقوط لوحة إعلانية ضخمة بالهند.. فيديو    الزمالك يدرس توجيه دعوة إلى مجلس الأهلي لحضور نهائي الكونفدرالية    موعد مباراة الأهلي والترجي في ذهاب نهائي دوري أبطال أفريقيا    مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء 14-5-2024    النشرة المرورية.. خريطة الكثافات والطرق البديلة بالقاهرة والجيزة    مليون طالب بالدقهلية يؤدون امتحانات النقل    رياح مثيرة للأتربة وانخفاض درجات الحرارة.. الأرصاد تكشف تفاصيل حالة الطقس (فيديو)    استراتيجيات الإجابة الصحيحة على أسئلة الاختيار من متعدد لطلاب الثانوية العامة في العام 2024    ضبط 56 بلطجياً وهارباً من المراقبة بالمحافظات    اللمسات النهائية قبل افتتاح الدورة 77 من مهرجان كان السينمائي الدولي    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. الثلاثاء 14 مايو    قافلة طبية مجانية لأهالي قرية الجراولة بمطروح.. غدا    طائرات مسيّرة إسرائيلية تطلق النار في حي الجنينة شرقي رفح    جامعة حلوان تستقبل وفدًا من الجامعة الأمريكية بالقاهرة لبحث سبل التعاون    رئيس جامعة القاهرة: زيادة قيمة العلاج الشهري لأعضاء هيئة التدريس والعاملين بنسبة 25%    تباين أداء مؤشرات الأسهم اليابانية في الجلسة الصباحية    المستشار الألماني يثبط التوقعات بشأن مؤتمر السلام لأوكرانيا    للأطفال الرضع.. الصيادلة: سحب تشغيلتين من هذا الدواء تمهيدا لإعدامهما    ما مواقيت الحج الزمانية؟.. «البحوث الإسلامية» يوضح    زوجة عصام صاصا تكشف مفاجأة عن سر اختفائه (فيديو)    «يهدد بحرب أوسع».. ضابط استخبارات أمريكي يستقيل احتجاجا على دعم بلاده لإسرائيل.. عاجل    نائب وزير الخارجية الأمريكي: نؤمن بحل سياسي في غزة يحترم حقوق الفلسطينيين    ما سبب الشعور بالصداع بعد تناول الأسماك؟.. ليس مصادفة    طريقة التقديم في معهد معاوني الأمن 2024.. الموعد والشروط اللازمة ومزايا المقبولين    حكم الشرع في زيارة الأضرحة وهل الأمر بدعة.. أزهري يجيب    غرفة صناعة الدواء: نقص الأدوية بالسوق سينتهي خلال 3 أسابيع    ما حكم عدم الوفاء بالنذر؟.. دار الإفتاء تجيب    بديوي: إنشاء أول مصنع لإنتاج الإيثانول من البجاس صديق للبيئة    هل يجوز للزوجة الحج حتى لو زوجها رافض؟ الإفتاء تجيب    «زي النهارده».. وفاة الفنان أنور وجدى 14 مايو 1955    إجازة كبيرة للموظفين.. عدد أيام إجازة عيد الأضحى المبارك في مصر بعد ضم وقفة عرفات    في عيد استشهادهم .. تعرف علي سيرة الأم دولاجي وأولادها الأربعة    لطفي لبيب: عادل إمام لن يتكرر مرة أخرى    "الناس مرعوبة".. عمرو أديب عن محاولة إعتداء سائق أوبر على سيدة التجمع    وزارة العمل توضح أبرز نتائج الجلسة الأولى لمناقشة مشروع القانون    تفحم 4 سيارات فى حريق جراج محرم بك وسط الإسكندرية    ميدو: هذا الشخص يستطيع حل أزمة الشحات والشيبي    إبراهيم حسن يكشف حقيقة تصريحات شقيقه بأن الدوري لايوجد به لاعب يصلح للمنتخب    «محبطة وغير مقبولة».. نجم الأهلي السابق ينتقد تصريحات حسام حسن    «يحتاج لجراحة عاجلة».. مدحت شلبي يفجر مفاجأة مدوية بشأن لاعب كبير بالمنتخب والمحترفين    جائزة الوداع.. مبابي أفضل لاعب في الدوري الفرنسي    سلوى محمد علي تكشف نتائج تقديمها شخصية الخالة خيرية ب«عالم سمسم»    سعر البصل والطماطم والخضروات في الأسواق اليوم الثلاثاء 14 مايو 2024    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك يوماً يتجلى فيه لطفك ويتسع فيه رزقك وتمتد فيه عافيتك    الخميس.. تقديم أعمال محمد عبدالوهاب ووردة على مسرح أوبرا دمنهور    الأوبرا تختتم عروض "الجمال النائم" على المسرح الكبير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أفراح الذاكرة: أم كلثوم نعمة الدنيا
نشر في الأهرام اليومي يوم 22 - 02 - 2019

سأل صحفى «نجيب محفوظ» عن «أم كلثوم»، ففكر بعض الشيء، ثم قال بهدوء رزين: أم كلثوم نعمة الدنيا. بداية تعرفه عليها عندما كان فى الخامسة عشرة من عمره، وتشاجر مع صديقه لاعب الكرة من شلة العباسية حول عظمة صوت «منيرة المهدية»، التى كانت سقف الغناء فى ذلك الوقت، فإذا بصاحبه لاعب الكرة يقول له بحدة: أنت تقول ذلك لأنك لم تسمع «أم كلثوم». فسأله: ومن «أم كلثوم» هذه التى تريد أن تقارنها بالسلطانة؟. فأجابه بحسم: اسمعها، وتعالى وقل لى رأيك. وذهب لحفلتها، وقطع تذكرة، واستمع إليها، ومن يومها وهى خاطفة لبه.
........................................................
كانت «أم كلثوم» بالنسبة له نعمة الدنيا بالفعل، فقد أحب الطرب على أنغامها، وكان يتحجج بمذاكرة دروسه مع أصدقائه بعد ثورة 1919، ويذهب إلى حفلاتها فى مسرح «الماجستيك» الذى هدم وطلعت بدلا منه عمارة ضخمة فى أول شارع فؤاد الذى أصبح اسمه شارع 26 يوليو بعد ثورة 23 يوليو، وبسببها قرر أن يصبح مطربا، فانتسب إلى معهد الموسيقى العربية ليتعلم العزف، وكان من أساتذته فى هذا المعهد «العقاد» الكبير، أشهر عازف للقانون فى مصر، وأحد أعضاء فرقة «أم كلثوم». عندما تقدم «نجيب محفوظ» للامتحان فى معهد الموسيقى العربية، كانت اللجنة التى ستختبره مكونة من أساتذة المعهد الأكاديميين، وبعض الهواة والسميعة من خارج المعهد، فى ذلك الوقت كان للسميعة مكانة مرموقة فى حياة الموسيقيين والمطربين، وكان المعلم «دبشة» الجزار الآمى الذى لا يعرف القراءة والكتابة واحدا من أعضاء اللجنة التى ستمتحن الطلاب، يجلس مع كبار الأكاديميين، ويقول الرأى ويشير بالمشورة، وما يقوله يؤخذ بعين الاعتبار، مثله مثل رئيس اللجنة، وقد أجازت هذه اللجنة الطالب «نجيب محفوظ» ليدرس فى المعهد.
المعلم «دبشة» هذا له كرسى مخصوص فى الصفوف الأولى لحفلات «أم كلثوم» كلها، وهى كانت تخصه بعنايتها فى الغناء، وتستجيب لطلباته لما يتسلطن، ويطلب منها إعادة الكوبليه، حتى إنه فى إحدى المرات ظل يطلب إعادة الكوبليه مرة ومرة ومرة، وفى المرة الأخيرة قالت «أم كلثوم» مرة أخرى لأجل خاطر عيون المعلم «دبشة»، ولما تغيب عن إحدى حفلاتها، أرسلت سائقها إلى بيته فى حى بولاق الدكرور حاملا بوكيه ورد، لأنها عرفت أنه مريض، ولهذا السبب، تقرب منه «نجيب محفوظ»، وأحبه، فهو واحد من الأعمدة التى تقوم عليها حفلات الست.
لما ابتدأت الإذاعة المصرية الحكومية بث أثيرها فى عام 1934، خصصت حفلتين لأم كلثوم يومى الإثنين والخميس، فانتقلت من خصوصية الحفلات لعمومية الشوارع والبيوت، وأصبحت ملكا مشاعا للناس كلهم، بعد أن كانت ملكا خاصا لسميعتها الخلصاء، الأمر الذى ضايق «نجيب محفوظ» جدا، فتكرار أغانيها للناس كلهم مرتين فى الأسبوع سيجعلها عادية ومكرورة وربما يملها الناس، فأرسل إليها خطابا قليل الكلمات موقعا من فاعل خير، يقول لها فيه: من فضلك، عززى نفسك، ولا تكررى الغناء مرتين فى الأسبوع، واكتفى بمرة واحدة فى الشهر، حتى يشتاق إليك المحبون. ويبدو أنها لم تستمع لنصيحته، أو ربما لم تقرأ خطابه أصلا، لأنها استمرت تغنى كل اثنين وكل خميس. وهو لا يستطيع أن يكتب إلا بعد أن يستمع إلى أغنية لها، يضع اسطوانتها على جهاز الجرامافون، الذى له بوق كالميكروفون، وإبرة تلتصق بالاسطوانة فى دورانها البطىء، وينساب صوتها حنوانا قويا جوابا، ويظل يتمشى فى الطرقة والصالة طوال الأغنية، ويترنم بشفتيه بالكلمات المموسقة، وعندما يتسلطن، يصرخ بالآهة المعجبانية، ويظل يروح ويجىء فى الصالة حتى تنتهى الأغنية، فيخلع الاسطوانة، ويعيدها لكرتونتها، ثم يتوجه لمكتبه، ليكمل اشتجاره اليومى مع شخوصه الفنيين الذين يؤرقه مصيرهم المأساوى. وعندما أنجب ابنته الأولى، أصر على أن يسميها «أم كلثوم»، لكن السيدة «عطية الله» زوجته، نبهته إلى أن الدنيا تغيرت، وأن أسماء البنات هذه الأيام مختلفة عن أسمائهن فى الجيل الماضى، ولفتت انتباهه إلى أن أسماء كثيرة مثل «رمش العين» و«سلسبيل» و»بذر الرمان» قد اندثرت تماما من قاموس سجل المواليد فى النصف الثانى من القرن العشرين، كما أنه لم يعد من اللائق أن تسمى البنت باسم يبتدئ بأم، هو اقتنع بالكلام من حيث المبدأ، فمنحها فى الأوراق الرسمية اسم «هدى»، وهو من الأسماء التى شاعت هذه الأيام بديلا عن الأسماء الأخرى التى اندثرت، لكنه ظل يناديها ب «أم كلثوم»، حتى نسيت الأسرة والأهل والجيران والزملاء اسمها الرسمى، أما ابنته الثانية، فقد منحها اسم «أم كلثوم» فى آخر أفلامها (فاطمة)، ولأنه يحب العدل، فكما منح ابنته الكبرى اسما رسميا، واسما حركيا، منح ابنته الصغرى اسما حركيا هو «فاتن». وهكذا، ظلت «أم كلثوم» بالنسبة له تعيش فى منطقة الحلم غير المتحقق، حتى نهايات عام 1961، عندما بلغ عامه الخمسين، فقرر أصدقاؤه الاحتفال به على طريقتهم الخاصة، لكن «صلاح جاهين» منسق الاحتفال، اكتشف حجم الورطة الكبيرة، عندما رأى أن من سيحضرون أكبر من ركنهم الخاص فى كازينو قصر النيل، فاتجه لرئيس تحرير الأهرام «محمد حسنين هيكل» عله يجد له مكانا أكثر اتساعا يقيمون فيه حفلهم بالنجيب الخمسينى، فهو صاحب خبرة كبيرة بالأماكن التى تسهر، وتصلح لمثل هذا الاحتفال، لكن «هيكل» نفث دخان سيجاره الكولومبى ذا الرائحة النفاذة فى سقف حجرة مكتبه، وقال ل «صلاح جاهين»: الأهرام أولى بهذا الاحتفال. وتولى «هيكل» تنظيمه بطريقته البروتوكولية الرسمية، «نجيب محفوظ» ابن الشارع، ورفيق الحرافيش، ولا يرتدى الكرافتات أبدا، فلم يسترح للأمر، هو يفضل كازينو قصر النيل، الذى يتيح له هواء أكثر حرية من هواء الأهرام المكيف، لكن «محمد حسنين هيكل» همس فى أذنه: سأدعو «أم كلثوم»، فوقع قلبه فى رجليه. «هيكل» البروتوكولى العتيق، لم يدع «أم كلثوم» وحدها، بل دعا معها «محمد عبدالوهاب» و«فاتن حمامة»، ولم يشأ أن يحرمه من جوه الذى اعتاده، فدعا أصدقاءه الحرافيش، حتى بلغ عدد المدعوين قرابة المائتى شخص، لدرجة أن «توفيق الحكيم» أبخل خلق الله فى الأرض، قدم له صينية من الفضة الخالصة، ظل «نجيب محفوظ» محتفظا بها طوال حياته، يفرجها للزوار فلا يصدقون، ويحكى حكايتها للجيران فيصابون بالدهشة، توفيق الحكيم؟، ومن حر ماله؟. لما حانت اللحظة الكبرى، ووجد «نجيب محفوظ» نفسه وجها لوجه أمام «أم كلثوم»، ظل يتأمل قسمات وجهها، وكان يسأل نفسه: أتأتى «أم كلثوم» خصيصا من أجلى أنا، وتغنى لى فى عيد ميلادى، وأنا الذى كنت أدور حولها فى الحفلات؟ ولما مدت يدها لتسلم عليه، أحس بقشعريرة تنتاب جسده كله، كانت المرة الأولى التى يلمس فيها أصابعها، وكان كأنه يحلم. ليس هذا فحسب، بل إنها لما قدمها «هيكل» لتتكلم، قالت جملة ألجمته من الفرحة: لقد أسعدنى «نجيب محفوظ» برواياته وقصصه فى الخمسين عاما الأولى من عمره، واتمنى أن يسعدنى خمسين عاما أخرى. هنا، لم يتمالك «نجيب محفوظ» نفسه، فوقف ورد عليها بصوت مرتجف لكنه هادئ، وقال: إذا كانت كتاباتى قد أسعدت «أم كلثوم»، فماذا يستطيع إنسان أن يفعل إزاء إحساسه بأنه أسعد مصدر سعادته. فى إحدى الجلسات التى ضمت بعضا من قصاصى وروائيى الستينيات، لاحظ «نجيب محفوظ» أن بعض كتاب اليسار يشتمون «أم كلثوم»، ويقولون عنها كلاما مؤذيا، من عينة إنها مطربة لكل العصور، ومادحة لكل الرؤساء، حتى اشتط أحدهم فى الرأى وأعلن أنها السبب المباشر لنكسة 1967، عندها، نهض «نجيب محفوظ» غاضبا، تاركا المكان كله، «جمال الغيطانى» لحق به، وحاول استرضاءه، لكن «نجيب محفوظ» قال له بحدة: قل لأصحابك يا «جمال» ألا يمسوا «أم كلثوم» بسوء فى وجودى.
كانت مقابلته لها فى عيد ميلاده الخمسينى، هى المرة الوحيدة التى قابلها فيها، لكنها ظلت بالفعل مصدر سعادة له طيلة عمره، غير أن المشكلة الكبرى التى عاناها فى سنواته الأخيرة، هى ضعف سمعه الذى ظل يتزايد عاما بعد عام، حتى كاد لا يسمع، فلم يعد قادرا على سماع أغانيها، ولم يعد مستطيعا أن يتبين اللحن الموسيقى، وكان أغرب ما يدهشه أنه لا يستطيع الاستماع إلا إلى لحنين فقط من أغانى «سيد درويش»، هما (سالمة يا سلامة) و(شد الحزام)، الأمر الذى جعله يستشير طبيبه الخاص فى هذه الحالة العجائبية، الطبيب الخاص نفسه كان يتعجب من هذا الأمر، فالشعيرات الخاصة بالاستماع للموسيقى فى أذنيه، قد ضمرت تماما، ولا بد أن «نجيب محفوظ» كان يتمنى لو انه يستطيع الاستماع لأغنيتين من أغانى «أم كلثوم» مثل (انت فاكرانى ولا ناسيانى) و(أمانا أيها القمر المطل)، بدلا من (سالمة يا سلامة) و(شد الحزام)، حتى يستطيع أن يستمتع بنعمة الدنيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.