عندما يتعلق الأمر بالأمن القومى ومواجهة الاحتجاجات تضع الحكومات مبادئ حقوق الإنسان جانبا، وتمسك بزمام الأمور بيد من حديد. هذا الواقع لا يخص فقط دولنا العربية، ولكن أيضا الدول الغربية التى طالما دعت الى حماية الحريات واحترام حقوق الانسان قبل أن تلطخ شعاراتها بدماء المحتجين، وتنكص مواثيقها الحقوقية، وآخر هذه الدول فرنسا التى اظهرت أخيرا ازدواجية غير مسبوقة بين ما تتشدق به، وبين واقعها الاحتجاجى الذى بات مفعما بأحداث العنف وحملات الاعتقال والقوانين المتعارضة مع أبسط قواعد حقوق الانسان، وهذا ما حذرت منه مجموعة من التقارير الأممية والمنظمات الحقوقية. فى بيان، صدر نهاية الاسبوع الماضي، انتقد خبراء بمجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة، الإجراءات التقييدية التى يتخذها البرلمان والحكومة الفرنسية والتى تتعارض مع الحق فى التظاهر، فى ظل استمرار احتجاجات حركة السترات الصفراء التى قاربت شهرها الرابع. واعتبر الخبراء الأمميون أن حق التظاهر فى فرنسا بات مقيدا بشكل غير متناسب، موضحين أنه منذ بداية حركة الاحتجاجات تم تسجيل عدد كبير من الاعتقالات والاحتجاز والتفتيش ومصادرة معدات المتظاهرين، فضلا عن الاستخدام المفرط للقوة. وعبر هؤلاء الخبراء عن قلقهم تجاه مشروع قانون فرنسى للتصدى للمخربين خلال التظاهرات والتجمعات، داعين فرنسا لمراجعة سياستها بشكل يصون النظام العام جنبا إلى جنب مع حماية ممارسة الحريات. فمقترح الحظر الإدارى على المظاهرات، ووضع تدابير إضافية للرقابة، وفرض عقوبات ثقيلة، يشكل قيودا شديدة على حرية التظاهر ويتعارض مع العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية الذى تعد فرنسا طرفا فيه. واتصالا بتعاطى فرنسا مع احتجاجات السترات الصفراء، أصدر البرلمان الأوروبى أخيرا قرارا يدين لجوء قوات الأمن فى بعض الدول الأوروبية لإجراءات عنيفة وغير متناسبة ضد التظاهرات السلمية التى تشهدها، دون الإشارة صراحة إلى اعتبارات الملاءمة الى فرنسا، وإن كانت بلا شك هى المقصودة من المداولات التى سبقت صدور القرار، ارتباطا بشكل مباشر بتظاهرات السترات الصفراء ولجوء القوات الفرنسية الى استخدام قذائف الرصاص الدفاعى ضد المتظاهرين. والحقيقة أن احتجاجات السترات الصفراء لم تكن الامتحان الوحيد لحقوق الإنسان فى فرنسا، بل سبقها قبل ذلك قانون مكافحة الإرهاب الذى صادق عليه مجلس الشيوخ الفرنسى فى يوليو 2018، وهو القانون الذى زاد سلطات وزير الداخلية ومديرى الشرطة فى المناطق ومكنهم من فرض إجراءات إدارية على الأفراد فى الحالات التى لا تتوافر فيها أدلة كافية لفتح تحقيق جنائي. ومن بين تلك الإجراءات تقييد حرية التنقل، وتفتيش المنازل، وإغلاق أماكن العبادة، وإقامة مناطق أمنية يسمح فيها للموظفين المكلفين بإنفاذ القانون بممارسة صلاحيات معززة فيما يتصل بتوقيف الأشخاص وتفتيشهم. ولا يتطلب القانون من مديرى الشرطة الحصول على إذن قضائى إلا فى حالة التفتيش، حسب ما جاء فى تقرير لمنظمة العفو الدولية. وطالبت لجنة مناهضة التعذيب فرنسا بعدم استغلال تدابير مكافحة الإرهاب فى التعدى على ممارسة الحقوق والحريات، وطالبتها بإدراج تعريف واضح للتعذيب فى تشريعاتها الوطنية بحيث يصبح جريمة لا تسقط بالتقادم. كما أعربت ذات اللجنة عن قلقها إزاء ارتفاع معدلات الانتحار فى سجون فرنسا، وارتفاع مستوى الاكتظاظ بالسجون وأوصت فرنسا بسرعة تحسين ظروف الاحتجاز. أما اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية فقد سبق وأعربت عن قلقها من انتشار الفقر بين الفئات المهمشة والمحرومة، بينما عبر مقرر الأممالمتحدة المعنى باحترام حقوق الإنسان لدى مكافحة الإرهاب عن قلقه لتضمين القانون الفرنسى تعريفا غامضا لما يمثل تهديدا للأمن الوطني، وهو ما اعتبرته منظمة هيومن رايتس ووتش انتهاكا غير مسبوق للحريات الفردية. ان ما باتت تنتجه فرنسا من عنف أمنى وقوانين صارمة يعد أمرا خطيرا بالنسبة لدولة ديمقراطية تدعى أنها تكفل وترعى الحريات. ففرنسا تتحول تدريجيا إلى دولة تنتهك فيها الحريات الفردية والجماعية، مرة بدعوى محاربة الإرهاب، ومرة أخرى بدعوى منع العنف فى أثناء المظاهرات. والقوانين الفرنسية باتت تسمح لقوات الأمن بوضع أى مشتبه فيه تحت الإقامة الجبرية دون الحصول على تصريح من قاضى التحقيق، كما باتت تسمح بفرض عقوبات ثقيلة على المتظاهرين السلميين بما يتناقض مع مبادئ الدولة الفرنسية ذاتها. لقد فشلت فرنسا فى امتحان حقوق الإنسان، التى أصبحت تستخدمها بشكل انتقائى وتساوم عليها أوطاننا. وفرنسا التى اشتهرت بإسهاماتها فى الفقه القانونى الدولي، لا يمكن أن تترافع فى المحافل الدولية والمؤتمرات الصحفية دفاعا عن حقوق الإنسان بينما سجلها الحقوقى حافل بالعديد من الخطايا. لعله آن الآوان لكى تدرك فرنسا حقيقة أن حقوق الإنسان طريق ذو اتجاهين فكما تعطى لنفسها حق تقييم الآخرين فإن هؤلاء ايضا بدورهم لديهم ذات الحق فى تناول ما لديها من نقائص وما أكثرها. لمزيد من مقالات ◀ وفاء صندى