تثير كتابة السير الذاتية والمذكرات فى ثقافتنا العربية العديد من الإشكاليات، إذ يعتبرها البعض مجرد رؤية ذاتية لا تخلو من هوى شخصى ومبالغات وتحوير أو إخفاء لحقائق، غالبا ما تنتهى بظهور كاتبها فى صورة مثالية أبعد ما تكون عن الطبيعة البشرية وإلقاء تبعة أخطائه، إذا ما تنازل وقرر الاعتراف بها، على الظروف أو الآخر أيا ما كان !!. وفى السياق الاجتماعى والثقافى فى مجتمعاتنا الشرقية يصبح الأمر أكثر حساسية وتعقيدا إذا ما غامرت صاحبة التاء المربوطة وروت سيرتها أو كتبت مذكراتها !!.. ورغم كل هذا يظل لفن السيرة الذاتية والمذكرات رونق وجاذبية خاصة للقارئ، بل لا يمكن التقليل من أهميته باعتباره رافدا مهما للمعرفة إذا ما اعتمد الباحث على منهج علمى لوصف وتحليل الأحداث والوقائع التاريخية للوصول لاستنتاجات منطقية تفسر وتكشف بعض مما لم يتوقف عنده المؤرخون أو ربما ما لم يدركه صاحب السيرة أو كاتب المذكرات نفسه!!. فى هذا السياق تقدم الباحثة د. سامية حبيب قراءة لتاريخ المسرح فى مصر بأقلام الفنانات اللاتى وقفن على خشبة المسرح فى عشرينيات القرن الماضى لتسلط الضوء على الحراك الثقافى والمجتمعى المصرى فى أوائل القرن الماضي. تقول الباحثة فى مقدمة دراستها التى اعتمدت فيها على وثائق تاريخية ودراسة فترة تعود إلى بداية القرن العشرين، إنها من واقع ما ذكرت صاحبات المذكرات سعت لاكتشاف التقاليد الفنية والاجتماعية التى كانت سائدة فى النصف الأول من القرن العشرين والدوافع الشخصية التى دفعت الفنانة للعمل بالفن كهاوية ثم محترفة وموقف الأسر والمجتمع والأنواع الفنية والنصوص والأدوار التى قمن بتمثيلها وأسباب اختيارها والعلاقة بين العائد المادى وشهرة الفنانة والمعوقات الاجتماعية ومعوقات المهنة التى واجهتهن فى المرحلة الأولى للمسرح فى مصر فى نهاية القرن التاسع عشر. واعتمدت الباحثة د. سامية حبيب فى دراستها على مذكرات وسير ذاتية كتبتها صاحباتها أو نشرت على لسانهن وهى مقالات الممثلة مريم سماط التى جاءت بعنوان التمثيل العربى والمنشورة عام 1915 بجريدة الأهرام فى خمس حلقات منذ يوليو إلى سبتمبر من العام نفسه ومذكرات فاطمة اليوسف (ذكريات) المنشورة فى المؤسسة التى حملت اسمها روزا اليوسف، والتى ضمت ذكرياتها عن العمل بالمسرح والصحافة معا منذ مطلع القرن العشرين ومذكرات فاطمة رشدى (كفاحى فى المسرح والسينما) وذكريات كل من أمينة رزق وزينب صدقى التى نشرت فى صور حوارات معهن قبل وفاتهن بفترات قصيرة فى مجلة «المسرح»، إلى جانب مصادر أخرى لرواد الإخراج والتمثيل مثل مذكرات يوسف وهبى (عشت ألف عام)، وكتاب (طلائع المسرح العربي) لمحمود تيمور وكتاب (خمسون عامًا من المسرح) لفتوح نشاطى وغيرها. ورغم أن الفن وخاصة التمثيل المسرحى هو العامل المشترك بين مذكرات الدراسة، فإن الباحثة توضح أن المذكرات حفلت بأحداث سياسية وقضايا وطنية واجتماعية لم تكشف فقط كواليس الحياة الفنية وأحوال فنانات مصر فى أوائل القرن الماضى، بل أيضا رصدت التلاحم بين القوى الوطنية والثقافية، مما جعل الفن وسيلة من وسائل المقاومة والتنوير والتثقيف للشعب المصرى بل العربي. ومن خلال دراستها لمذكرات مريم سماط ترصد الباحثة مرحلة بداية المسرح المصرى التى واكبت زخما سياسيا تجلت بعض ملامحه فى مسرح يعقوب صنوع. وفى تتبعها لما ورد على لسان صاحبة المذكرات يتضح أن ممثلات الرعيل الأول من الفنانات كن من أصول غير مصرية, الغالبية من الشام ويدن بغير الدين الإسلامي، مرجحة أنه السبب فى إطلاق لقب أول ممثلة مصرية على منيرة المهدية عام 1915 رغم أنها لم تبدأ العمل فوق خشبة المسرح بأدوار نساء، إذ ظلت لمدة عامين كاملين تلبس بذلة الرجال وتمتشق الحسام وتمثل وتغنى أدوار الشيخ سلامة بعد مرضه وتقاعده عن التمثيل والغناء!!.. وللحديث بقية.. لمزيد من مقالات سناء صليحة