مسكينة فنزويلا، أرضها مغارة على بابا، تحوز أكبر مخزون من النفط، 300 مليار برميل تمثل 25% من الاحتياطى العالمى، وهى الثالثة فى الغاز والذهب، بينما يعانى شعبها ظروفا قاسية، ارتفاعا رهيبا فى الأسعار ونقصا فى الغذاء والدواء، حصار وعقوبات اقتصادية أمريكية، تقف كاراكاس اليوم أمام منعطف مصيرى، أعطت واشنطن إشارة إزاحة الرئيس نيكولاس مادورو، فبدأت المعارضة التنفيذ، دون اكتراث بخطورة التصعيد والمواجهة القاسية، أعلن زعيم المعارضة رئيس البرلمان غويدو نفسه رئيسا انتقاليا للبلاد، على الفور اعترفت به أمريكا ومن ورائها قطيع الذئاب الأوروبى وآخرون. فى عام 1823 أرسى الرئيس الأمريكى جيمس مونرو مبدأ فى السياسة الخارجية، عرف باسمه، خلاصته الانعزال عن أوروبا القديمة وبسط الهيمنة على الأمريكتين، منذ تلك اللحظة تنظر واشنطن إلى أمريكا اللاتينية باعتبارها حديقتها الخلفية، دست أنفها فى شئون دولها بلا استثناء، وبعد أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 أصرت واشنطن على عدم تكرار هذا النموذج الثورى المعاند لها، اعتبرته شوكة فى خاصرتها، تدخلت استخباريا وعسكريا للإطاحة بالأنظمة التى تستشعر أنها ليست على هواها أو يمكن أن تتحدى إرادتها، نظمت انقلابات دموية أزاحت أنظمة ديمقراطية، مثلما فعلت مع سلفادور الليندى فى تشيلى عام 1970، عندما أتت بالمستبد الدموى بينوشيه. كذلك فعلت بطريقة أو بأخرى، فى البرازيل والأرجنتين وجواتيمالا والإكوادور، وبقية دول أمريكا اللاتينية، أطلق عليها جمهوريات الموز تعبيرا عن التحاقها بواشنطن، لجأت أحيانا إلى الأساليب الخفية باستخدام الاقتصاد والمساعدات، والشركات الكبرى، والعولمة، والنخب السياسية التابعة (الطابور الخامس)، لتشويه سمعة الأنظمة الرافضة لهيمنتها، والتحريض عليها مع تشكيل غطاء شعبى يتم تحريكه عند اللزوم، للإيحاء بعدم شرعية الأنظمة المستهدفة، وهو الأسلوب المستخدم الآن فى فنزويلا. منذ مجىء الرئيس السابق شافيز ذى النزعة اليسارية الثورية إلى سدة الحكم، قبل نحو عشرين عاما، ثم خلفه مادورو، استهدفت أمريكا أهم مولدات الثروة أى القطاع النفطى، تدريجيا، أوصلت فنزويلا إلى الأزمة والعزلة، وضعت معاناة الشعب فى كفّة وتغيير النّظام فى كفّة أخرى، هدد جون بولتون مستشار الأمن القومى الأمريكى أخيرا باجتياح فنزويلا عسكريا، جمدت أرصدتها، وكذلك فعلت بريطانيا وتبعتهما دول غربية، دون اكتراث بنتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة التى منحت مادورو ولاية جديدة بنحو 70% من أصوات الفنزويليين. يذكرنى هذا الوضع بما ساقته واشنطن من أكاذيب وحيل لغزو العراق، وأشهرها الخلاص من المستبد ونشر الديمقراطية والحريات والازدهار الاقتصادى، وحينما بدأت المعارك، لم يطالب الأمريكانالعراقيين برأس صدّام مقابل إيقاف المجاعة وإنهاء الحصار، بل نهبوا ثروات العراق، وأهمها- وياللمفارقة- البترول، معادلة أمريكية يعاد استخدامها، معادلة تذكر بفيلم (اختيار صوفي) المقتبس عن رواية بالاسم نفسه، للكاتب الامريكى وليم ستايرون وإخراج آلان باكولا، وفيه يُجبر الجندى النازى امرأة بولندية على الاختيار بين أيّ من ولديها يعيش وأيّهما يموت بالمحرقة، فنزويلا اليوم أمام اختيارات أشد مأساوية، يعرف أهلها أن الجندى الأمريكى سوف يقتل الولدين، يزيح السلطة وينهب الثروة، بغض النظر عن حمامات الدم. يرى ترامب أن حسم ملف فنزويلا، إنجاز استراتيجى ومخرج من أزماته الداخلية والخارجية، لاسيما فشله بالشرق الأوسط، وانسحابه من أفغانستان وسوريا أو غيرها، كذلك قطع الطريق على روسيا، ومنعها من إيجاد موطئ قدم عسكرية خلف الأطلسى، ولجم شراهة الصين تجاه النفط الفنزويلى بوصفه (غنيمة أمريكية)، وقد كشفت صحيفة وول ستريت جورنال عن أن غويدو زعيم المعارضة صناعة أمريكية، وأن مخطط الإطاحة بمادورو أعد قبل شهرين بإشراف مايك بنس نائب الرئيس الأمريكى. صمد مادورو حتى الآن، لكن لا شيء يضمن استمراره رئيسا أمام الضغوط الرهيبة، سوى الشعب الفنزويلى ومدى إيمانه بالنظام وفكرة الاستقلال الوطنى، ورفض التحول إلى جمهورية موز أو همبرجر، ساعتها من الممكن أن نشهد سيناريو فيتنامى جديدا، إذا جن جنون الإدارة الأمريكية وتدخلت عسكريا، الواقع فى فنزويلا معقد وموازين القوى على حد السيف. إن ما يجرى أزمة جيوسياسية عالمية أكثر تعقيدا مما تبدو، وفى ظل انهيار العولمة وخوفا من شبح الأفول، تخوض أمريكا معركة كسر عظام فى كل الاتجاهات للانفراد بالقرار العالمى، والتخلص من قيود الاتفاقيات الدولية وأخلاقيات المعاملات الإنسانية، أما فنزويلا فقد خرجت عن القطيع الملتزم، ومن ثم تسعى واشنطن وحلفاؤها إلى إعادتها مائة عام من العزلة الأمريكية، والكلمة الأخيرة للشعب الفنزويلي!. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن