أخيرا وسط ما كان يحدث في فرنسا، أعلن جهاز الإحصاء الرسمي الفرنسي أن 8.8 مليون فرنسي يعيشون دون حد الفقر. ومنذ عدة أشهر كان لكريستين لاجارد مديرة صندوق النقد الدولي تصريح مؤداه أن العولمة زادت من حدة الفوارق الاجتماعية، بحيث زاد الاغنياء ثراء، بينما زاد الفقراء عددا وفقرا. تطفو هذه الحقائق بعد ان تم إقناعنا، او فرض علينا الاعتقاد، بأن التحولات الاقتصادية الكبرى التي تجري لتحول العالم الى قرية سوف تتقاطر منافعها المالية من أعلى بحيث تستمر القدرات المالية تنزل من علوها لتصل الى الطبقات الأدنى. قطرات تليها قطرات. وبذلك يستفيد الجميع. فرضوا علينا نظرية التقاطر هذه التي لم تحدث، والواضح انها لن تحدث. تحدثوا كثيرا عن التحول الاقتصادي الذي سيغير وجه العالم ولم ينتبهوا، او يتنبهوا عمدا، ان اي تحول اقتصادي لابد ان يصاحبه تحول اجتماعي يضبط الموازين العامة. فالمجتمعات تتقدم في توازن بين تياراتها ومنظماتها التي تؤدي كل منها الدور المنوط بها. فأصحاب الاعمال المنظمون يستثمرون أموالهم من أجل تحقيق الأرباح. وهم في ذات الوقت يحققون إشباعا مجتمعيا يستفيد منه الجميع. ولكنهم لا يستطيعون تحقيق هذه الارباح او ذلك الإشباع إن لم يوظفوا أجراء منظمين يحصلون على اجورهم في مقابل بيع قوة عملهم لهؤلاء المستثمرين. معادلة بسيطة عرفناها منذ قيام الصناعة وتطور الرأسمالية الصناعية. وهي المعادلة الاقتصادية الاجتماعية في موضوعنا. بجانب المعادلة الاقتصادية سارت المعادلة الاجتماعية التي حافظت على التوازن وضمنت بدورها التوازن المجتمعي العام. مع تطور مجتمعاتنا التي ضمت المصانع والمزارع والعقارات والمنتجعات والمتاجر الكبرى شاهدنا الاحزاب والنقابات والاتحادات والتعاونيات، التي نشط فيها اصحاب الاعمال والاستثمارات والعمال الأجراء والموظفون والمزارعون من الذكور والإناث. وسارت المعادلتان تتفاعلان، اتفاقا او اختلافا، ولكن في حالة نمو متوازن طوال القرون اللاحقة للثورة الصناعية الاولى ثم الثانية، وتواليا الى ان وصلنا الى وقتنا الحالي. لكن يمكن القول إن القرن العشرين شهد زخما في مسار المعادلتين بسبب النمو الصناعي الكبير وفي قلبه الوحدات الصناعية الكبيرة في الصناعات الثقيلة والقاطرات والسيارات والغزل والنسيج الى آخر تلك الصناعات الهائلة التي أسهمت في تكوين وبناء السواعد والكوادر الصناعية من العمال والموظفين. إلى جانب الوحدات الصناعية وجدت الوحدات التجارية التي بدأ يتعاظم حجمها مع الربع الأخير من القرن العشرين. هذه السواعد والكوادر لم تسهم فحسب في تطور الصناعة وإشباع المجتمع وانما كان لها دورها الملحوظ في الجانب الآخر من المعادلة، الجانب الاجتماعي، اي في الاحزاب والنقابات والاتحادات والتعاونيات. وباتت مكونا مهما من الرأسمال الاجتماعي المنظم. والمهم ان الخاصية الاساسية في التطور الصناعي انه حول الوحدة الصناعية الكبيرة التي كانت في الاساس مكونة من مجموعات عمل حرفية تنتج كل منها السلعة متكاملة، حولها التطور الى خطوط إنتاج يعمل عليها أعداد من العمال لينتجوا ذات السلعة القديمة ولكن في وقت اقل وبسعر في متناول اعداد اكبر من المستهلكين. ودائما ما ينظر الى هنري فورد، الجد الاكبر لعائلة فورد، العائلة المالكة لصناعة السيارات المشهورة، على انه رجل الصناعة الذي اخترع اول خط انتاج في صناعة السيارات وعظم من أرباحه ووسع من انتاجه وجعله في متناول إمكانات الطبقة الوسطى الواسعة الاستهلاك. اي انه حقق الارباح وفي ذات الوقت ساعد، دون تخطيط منه، على تكوين الكوادر المتخصصة وحقق إشباعا مجتمعيا ملحوظا. وعلى سبيل المثال نعرف ان النقابات العمالية تحديدا كما عرفناها طوال القرن العشرين كانت منظمات جماهيرية ديمقراطية مستقلة تنظم العاملين على اساس وحدة العمل. ووحدة العمل هذه كما عرفناها في القرن العشرين كانت تقوم في الاساس على تشكيل خطوط الإنتاج التي تكمل بعضها البعض. في القرن العشرين تعاظمت وسادت حقيقة الوحدات الكبرى الكثيفة العمالة والتي ينتظم عمالها تحت وضع قانوني وتنظيمي ونقابي واحد. في هذا القرن العشرين، عندما نمت وحدات العمل الاستثمارية خاصة الصناعية في الاساس، لم يكن هذا النمو في استثماراتها او عدد عمالها او في درجة اشباعها للمجتمع فحسب، وانما كان كذلك في تنظيمها وهيكلتها وقدرتها على فرض تنظيم مجتمعى يستند إلى القانون والمؤسسات. وبات من السهل على المواطنين تسمية المواقع الجغرافية على اساس طبيعة الصناعات الموجودة بها. كما أن الصناعة الكبيرة لا توظف العمال فحسب، وانما تنشئ حولها مجتمعات إنسانية كبيرة. في جانب مهم من هذه المجتمعات تكون النقابات التي تنعكس عليها كل التطورات التنظيمية الحادثة في المؤسسات الصناعية التي تعمل بها. فالصناعة تشكل الكوادر المهنية التي تنقل خبراتها تلك الى العمل النقابي. في الولاياتالمتحدةالأمريكية تعرف ولاية ميتشيجن بمدينتها العريقة، ديترويت حصن صناعة السيارات. وفي مصر، عندما يأتي الحديث عن صناعة الغزل والنسيج فلا يتطرق العقل إلا الى مدينة المحلة الكبرى. وهكذا تغير الصناعة الكبيرة البيئة والافراد وكذلك المؤسسات. ولا يمكن القول إن تعاظم دور المؤسسات المجتمعية كالنقابات والاحزاب والاتحادات كان هينا سهلا دون صدامات وصراعات، وإنما كان هذا التعاظم في إطار من صراع اجتماعي حاد بين طرفين أساسيين الطرف الأول هو اصحاب الاعمال، وكان الطرف الثاني بالطبيعة هؤلاء العاملين بأجر. ولكن وبلا ادنى شك وهو رأيي باستمرار، ان اصحاب الاعمال كانوا دائما الرابحين من هذا الصراع بشرط استمرار العاملين منظمين منتظمين في منظماتهم النقابية، إلا إذا تم تفكيك او إضعاف هذه النقابات وفقدت عضويتها وخرج العاملون الى الشوارع كشخوص وكأفراد بلا برنامج وبلا قيادة كما حدث في شوارع مدن فرنسا. ويجب ألا ننسى من دروس تاريخنا السابق لنشأة النقابات ان العمال كانوا يعبرون عن غضبهم بكسر الآلات وحرق المصانع. اما بعد النقابات فقد تعلم الأجراء ان الحقوق تتحقق بالتفاوض وبالإضراب السلمي. تعلموا هذا بعد ان نقلوا قدراتهم المهنية التنظيمية من خط الانتاج الى ساحات النقابات. فالنقابات، بالرغم من شغبها، نعمة وليست نقمة. لأنها إحدى مدارس العمل العام. لمزيد من مقالات أمينة شفيق