شهدت البرازيل مع بداية العام الذى بدأ بتنصيب رئيس جديد لها،هزات سياسية وهزات أرضية قد تغير من ملامح الحقبة القادمة فى تاريخ البلاد، فقد ضرب زلزال بقوة 6.8درجات بمقياس ريختر مدينة تاراووكا بالجزء الغربى من البلاد، ولكن قوة هذا الزلزال لم تكن الأقوى حيث هزت البلاد خلال الأيام القليلة الماضية عدة قرارات وتصريحات أشد قوة وتأثيرا، لكونها تمثل توجهات الحكم الجديد الذى يهدف إلى تحويل سياسة البلاد إلى الراديكالية للمرة الأولى فى تاريخ أكبر دول أمريكا اللاتينية. فلم تمض ساعات على حفل تنصيب الرئيس جايير بولسونارو-63عاما الذى يمثل التيار اليمينى المتطرف حتى بدأ فى اتخاذ خطوات تكشف عن توجه واضح للقطيعة مع عقود من حكم تراوحت بين اليسار ويمين وسط، مما أثار جدلا وردود أفعال أكدت أنه بالفعل «ترامب البرازيل» كما يطلق عليه الكثيرون، وكما يعتبره هو شخصيا مثلا أعلى يحتذى به. ولم يتوقف الأمر على القرارات التى يعتبرها البعض صادمة،ولكن تعرضت إحدى مدن الشمال مدينة فورتاليزا لموجة عنف استمرت أسبوعا وأثارت الذعر بين المواطنين نتيجة لحوادث حرق ونهب المتاجر والمصارف ومحطات الوقود، مما اضطر السلطات البرازيلية إلى نشر المئات من قوات الجيش والشرطة الفيدرالية فى المدينة إضافة إلى مناطق أخرى بولاية سيارا، وقامت بهذه الهجمات عصابات إجرامية تعترض على تشديد الإجراءات المتبعة داخل السجون ،من حجب لشبكة التليفون المحمول وإنهاء سياسة توزيع السجناء وفقا لولائهم أو انتمائهم، حيث يوجد فى البرازيل أكثر من 700ألف سجين، ولقد أشاد الرئيس بو لسونارو بقرار استدعاء الجيش ووصفه بأنه قرار «سريع وفعال» خاصة انه يتوافق مع تعهده الانتخابى بالتصدى للجريمة والعصابات الإجرامية ومكافحة الفساد. وبدأت ملامح التغيير فى سياسة البرازيل الخارجية والداخلية فى الوضوح، بعد تصريح الرئيس الجديد باستعداده لإقامة قاعدة عسكرية أمريكية على الأراضى البرازيلية، وهى سابقة لم تحدث من قبل، مما آثار استهجان ودهشة ضباط القوات المسلحة باعتبارهم حماة السيادة الوطنية، وأكدت وزارة الدفاع بدورها أن الرئيس لم يطرح عليها هذا الاقتراح، ويبرر بولسونارو وجهة نظره فى هذا الشأن بأنه وسيلة للتصدى للنفوذ الروسى فى فنزويلا، وقلقه من المناورات العسكرية المشتركة بينهما، والتى قد تمثل تهديدا على أمن البرازيل، كما انتقد الحكومات اليسارية فى كوبا ونيكاراجوا وفنزويلا، وألغى دعوات زعمائها لحضورحفل تنصيبه. بينما على الجانب الآخر، دعا بولسونارو حلفاءه الجدد، حيث يري أن تقاربه مع الولاياتالمتحدة اقتصادى لكنه يمكن أن يكون عسكريا أيضا، وبالفعل سارع لتوثيق علاقة البرازيل بإدارة ترامب ودعا وزير خارجيته إلى حفل أدائه اليمين. وقال بومبيو للصحفيين حينها إن «أمام الولاياتالمتحدةوالبرازيل فرصة للعمل معا ضد الأنظمة الاستبدادية» فى المنطقة مثل الأنظمة فى فنزويلاوكوبا ونيكاراجوا، على حد تعبيره. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل دعا رئيس الوزراء الإسرائيلى إلى حضور الحفل أيضا،وأعلن عزمه على نقل سفارة بلاده فى إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، مقللا فى الوقت نفسه من أهمية أى إجراءات انتقامية قد تتخذها الدول عربية، ووصف الدول المعترضة على نقل سفارة بلاده إلى مدينة القدسالفلسطينية بالدول «المتطرفة»، وإن «الشعب الإسرائيلى هو من يحدد ما هى عاصمة إسرائيل». وأكد نيتانياهو لعدد من أبناء الطائفة اليهودية فى ريو دى جانيرو أن نقل السفارة البرازيلية إلى القدس «ليس مسألة هل بل مسألة متي».وتحدث عن أخوة جديدة مع البرازيل . وجاء رد بولسونارو على أن نقل السفارة يشكل تهديدا لصادرات اللحوم البرازيلية «الحلال» إلى الدول العربية، والتى تبلغ قيمتها نحو مليار دولار. بقوله»قسم كبير من العالم العربى يصطف إلى جانب الولاياتالمتحدة أو بصدد الاصطفاف بجانبها. وقضية فلسطين هذه سأم منها الناس فى قسم كبير من العالم العربي». وجدير بالذكر أن البرازيل قد اعترفت بالدولة الفلسطينية فى عام 2010. وكما جاءت قرارات الرئيس البرازيلى الجديد مغايرة لسياسة البرازيل لعقود مع حكومات يسار الوسط ويمين الوسط فى الشأن الخارجي، جاءت كذلك قراراته فى الشأن الداخلي، حيث أصدر بولسونارو الذى يحظى بدعم كبير من قطاع الشركات الزراعية القوى فى البرازيل أمرا تنفيذيا، يحيل الأراضى التى يعيش عليها السكان الأصليون إلى سلطة وزارة الزراعة، وهو ما أثار تحذيرات بيئية من تهديد حياة وثقافة آخر حراس للأمازون أكبر غابات العالم المطيرة ويثير استغلال غابات حوض الامازون الاستوائية الواقعة شمالى البلاد لاغراض الزراعة والرعى قلقا دوليا كبيرا نظرا للدور الحيوى والمهم الذى تلعبه هذه الغابات فى ضبط المناخ وتنظيمه و تسهم فى التوازن البيئى بالعالم.والقرار المؤقت، الذى سيعتبر لاغيا إذا لم يصدق عليه الكونجرس فى غضون 120 يوما، يجرد الوكالة المعنية بشئون السكان الأصليين من سلطة إصدار القرارات بشأن الأراضى التى يطالب بها هؤلاء السكان.ويضع القرار هذه السلطة فى يد وزارة الزراعة التى ستكون مسئولة عن «تحديد وترسيم وتسجيل الأراضى التى يعيش عليها السكان الأصليون». ويثير هذا القرار غضب المدافعين عن البيئة، كونه يفتح الباب أمام المزيد من الاستغلال التجارى بشأن غابات الأمازون وغيرها من المحميات الطبيعية.وأنه طريقة لوضع أراضى السكان الأصليين المتوارثة تحت سيطرة جشع قطاع التجارة الزراعية ، ويبلغ عدد السكان الأصليين فى البرازيل 900 ألف نسمة أى أقل من واحد فى المائة من عدد سكان البلاد لكنهم يعيشون على مساحة تصل إلى 264 مليون فدان أى 12.5 فى المائة من مساحة البلاد.ويدافع الرئيس البرازيلى عن قراره بأنه يسهم فى تخفيف البيروقراطية التى يواجهها المزارعون ! وقال بولسونارو فى تغريدة على تويتر «نعتزم إصدار مرسوم يكفل للمواطنين الذين ليس لهم سجلات جنائية امتلاك أسلحة نارية».وذلك يعد أنباء سارة لكثير من مؤيديه الرئيسيين الراغبين فى تخفيف القوانين الصارمة بشأن حيازة الأسلحة بالبلاد. وهو ما وعد به طوال حملته الانتخابية، بتغيير القانون الحالى لحيازة الأسلحة الذى يضع معوقات بيروقراطية وقانونية أمام الأفراد الساعين لشراء أسلحة نارية للدفاع عن النفس وسط مستويات مرتفعة من الجرائم المصحوبة بعنف. وتعد البرازيل أكثر دول أمريكا الجنوبية نفوذا، وهى قوة اقتصادية صاعدة وواحدة من اكبر الديمقراطيات فى العالم.وحققت فى السنوات القليلة الماضية خطوات كبيرة فى سعيها الى انقاذ الملايين من دائرة الفقر، رغم ان الفارق بين الأغنياء والفقراء ما زال شاسعا، وجاءت إجراءات بولسونارو لتمهد إلى «تنظيف» إيديولوجى داخل الإدارات العامة وتغيير صادم للاقتصاد نحو الليبرالية، وذلك تنفيذا لأهم وعوده الانتخابية وفى مقدمتها القضاء على الفساد المستشرى فى الحياة الاقتصادية والسياسية، وهو ما أكده فى خطاب تنصيبه «بإعادة النظام» و«تحرير المجتمع من الاشتراكية وتصويب المفاهيم». ولقداستلم وزراء حكومته ال22 مهامهم، مصممين على إطلاق حملة لمحاربة الجريمة والفساد والأيديولوجيات التحررية، واختار سيرجيو مورو، أبرز القضاة المناهضين للفساد فى البرازيل، وزيرا للعدل.لكن هناك من انتقد ترك القاضى تحقيقات كان يجريها فى أكبر فضيحة فساد وتعرف باسم «عملية غسيل السيارات»، وقد أثارت دماريس ألفيس وزيرة المرأة والعائلة وحقوق الإنسان، موجة من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعى بتأكيدها أن البرازيل دخلت فى «حقبة جديدة»، حيث «يرتدى الصبيان اللون الأزرق، والفتيات اللون الزهري». أما وزير الاقتصاد باولو غيديس، فوضع أولوياته وهى إصلاح نظام التقاعد والنظام الضريبي، والخصخصة. والذى يعد أول وأبرز تحدٍ للحكومة وهو ضرورى لتقليص حجم الديون الهائل للبرازيل،ولكن قد يجد صعوبة فى الحصول على الموافقة عليه فى ظل مجلس نواب منقسم جدا. وفور تسلمه مهامه ارتفعت بورصة ساو باولو للمرة الأولى إلى أعلى من 90ألف نقطة، فيما تعززت قيمة الريال البرازيلى مقابل الدولار الأمريكي. ولكن البعض لديه انطباع بأن أعضاء الحكومة غير مدركين للمشاكل الحقيقية فى البرازيل. وعندما يحاولون مناقشة مسائل مهمة، تكون آراؤهم مبسطة حولها. كما ان هناك خلافا بين المواطنين البرازيليين بشأن آراء ومواقف الرئيس الجديد، خاصة تعليقاته ذات الطابع العنصرى والمعادى للنساء. و«التنظيف» الأيديولوجى المعلن عنه، الذى ربما يمهد إلى فصل من لا يتوافقون مع الخط الرسمى للحكومة، خاصة ان هناك عزما لإصدار قرار بمنح الحكومة الحق فى «المراقبة والتنسيق والإشراف» على عمل المنظمات غير الحكومية. ولذلك فإن فوز اليمينى جايير بولسونارو برئاسة البرازيل، يمثل الحدث الأكثر درامية فبينما يراه البعض الرجل الذى سيضع البرازيل على المسار الصحيح ، يتخوف آخرون من أن يتحول البلد فى عهده إلى الديكتاتورية. ولكن الكل يتفق على ان البرازيل على أبواب عهد جديد فى تاريخها.