فى أولى تظاهرة لها فى العام الجديد، والثامنة منذ ظهورها، عادت احتجاجات السترات الصفراء بقوة، السبت الماضي، بعدما شهدت مشاركة نحو 50 ألف شخص، فى جميع أنحاء فرنسا (مقابل 32 ألفا فى التظاهرة السابعة يوم 29 ديسمبر الماضي). بينما تظاهر، صباح الأحد، مئات النساء من السترات الصفراء فى باريس ومدن فرنسية اخرى، حاملات شعار: ماكرون انتهى أمرك... النساء نزلن الى الشوارع. وعلى الرغم من غياب الانسجام بين الموضوعات التى يطرحها متظاهرو السترات الصفراء، إلا انهم أجمعوا على رفض واقع واحد: مطالبة الفقراء دائما ببذل تضحيات، بينما اتفقوا على العودة للتظاهر: لا نرى شيئا يمكن أن يقنعنا، من الآن فصاعدا، بوقف قضاء أيام السبت فى باريس، كتعبير ثابت عن مواقفهم واصرارهم على تحقيق مطالبهم، التى لم تعد مرتبطة فقط بمسألة القدرة الشرائية، ولكن صار المطلب الرئيسى يتمثل فى الكرامة، الاحترام والاعتبار، كما جاء فى رسالتهم المفتوحة التى جاءت كردّ على خطاب ماكرون الذى هدد فيه المتظاهرين بالقول: «الغضب يمكن أن يتحول إلى كراهية، إذا واصلتم اعتبار الشعب شحاذين». ماكرون.. استقل، بات شعار هذه الأزمة الاجتماعية السياسية التى تهدد عرش الرئيس الفرنسي، رغم ما قدمته حكومته من تنازلات، كان أبرزها إلغاء الرسوم على الوقود التى كانت مقررة لعام 2019، إضافة إلى إجراءات أخرى الهدف منها تعزيز القدرة الشرائية للمواطنين، حيث بلغت كلفة هذه الاجراءات على الخزينة العامة نحو 10 مليارات يورو. فإن هذا الاجراء لم يقنع المحتجين، بل على العكس، نجحت حركة السترات الصفراء فى رهانها فى تعبئة عدد أكبر والاصرار على موقفهم، رغم ادعاء وزير الداخلية الفرنسى أن هذه الحركة لا تمثل فرنسا، ورغم ما يواجه الاحتجاجات من انتقادات بسبب موجة العنف التى ترافقها، فإن التعبئة الاخيرة أثبتت أن الحركة أصبحت سياسية، وباتت تمثل معارضة شعبية للنظام القائم فى فرنسا. لم تكن حركة السترات الصفراء جسما واحدا متجانسا، بل مجموعات لكل واحدة اسمها ومقاربتها، الا أن الحديث عن إمكانية دخولها فى حوار سياسي، ومشاركتها فى الانتخابات الأوروبية، فى شهر مايو المقبل، سواء بإنشاء قائمة خاصة او قبول عروض بعض الاحزاب التى تريد التحالف معها، بات أمرا قائما. وتشير بعض الاستطلاعات إلى أن الحركة يمكن ان تحصد 12بالمئة من الأصوات فى الانتخابات الأوروبية. وان 23 بالمئة من مجموع العمال والموظفين قد يصوتون لقائمتها، ما يجعلها اول حزب يمثل هذه الشريحة المنحدرة من مناطق تعانى ازمات اقتصادية وارتفاع البطالة، مقابل تراجع دعم الدولة للتعليم والصحة والخدمات العامة. لقد باتت حركة السترات الصفراء واقعا فرنسيا، يفرض نفسه بقوة، بعدما تمخضت من رحم الاحتجاج ضد الزيادة فى الضريبة على المحروقات، وتحولت الى حالة استياء عامة عكست شرخا اجتماعيا وخللا فى الحياة السياسية ليس فقط فى فرنسا، وإنما يمكن ان ينتقل الى دول اوروبية اخرى، منها هولندا التى شهدت، السبت الماضي، احتجاجات مماثلة ضد الحكومة وسط هتافات مطالبة برحيل رئيس الوزراء الهولندي، بينما حذر وزير المالية الالمانية من فرص خروج مظاهرات فى ألمانيا، مع ارتفاع تكاليف المعيشة وإيجار العقارات التى تثير حفيظة وقلق كثير من المواطنين، ليست فقط من الطبقات الفقيرة ولكن الوسطى أيضا. ما يحدث فى فرنسا، ومنها الى باقى الدول الأوروبية، هو رد فعل شعبى على نتائج سياسات النيو ليبرالية، التى وفرت الشروط الموضوعية لحدوث احتجاجات اجتماعية قابلة للانفجار فى أى وقت. وهو أيضا، انقلاب، على الديمقراطية الغربية، التى طالما آمنت بمبدأ احترام نتائج الصناديق الانتخابية، حيث لم يسبق أن تبنى متظاهرون فى دول الغرب، مطالب من شأنها الإطاحة برئيس منتخب. ما يجعل الاصرار على رحيل ماكرون يشكل تهديدا لمستقبل مبادئ الديمقراطية ليس فى فرنسا فقط وانما فى دول اوروبا، خاصة مع بزوغ نجم التيارات اليمينية فى العديد من دول القارة، والتى تتبنى نفس الرؤية. مستقبل القارة العجوز على المحك، سواء على مستوى كل دولة على حدة، أو على مستوى الاتحاد ككل، فى ظل تنامى الاحتجاجات الشعبية، وتراجع فكرة الاتحاد، وصعود قوى شعبوية فى عدة دول منها ايطاليا والنمسا والمجر والتشيك وبولندا، وحضور قوى مماثلة من أقصى اليمين فى فرنسا، هولندا، ألمانيا، وخروج بريطانيا من الاتحاد، وقرب انتهاء حقبة ميركل، وما يعنيه كل ذلك من تهديد للمشروع الأوروبي. ويزيد من متاعب اوروبا تربص دونالد ترامب بها ورغبته فى النيل من الاتحاد الأوروبى فى ظل تنافسية العولمة، ورغبة فلاديمير بوتين بتفتيت الوحدة الأوروبية لمصلحة شعبويين يسهل على روسيا التعامل معهم. وفى ظل هذا الواقع المتصدع، هل سيتجاوز الاتحاد الاوروبى أزماته، ام سوف يستسلم لواقع جديد؟. لمزيد من مقالات ◀ وفاء صندى