يخطو إلينا عامٌ جديد بذكرى ميلاد السيد المسيح، فهى مناسبة مُلهِمة، دائمًا ما نجد فيها جانبًا مضيئًا يفتح عقولنا على آفاق جديدة. ففى هذه الأيام المجيدة نجد فرصةً جليلةً للتقارب وتبادل التهانى التى تعبر عن مشاعر صادقة، لذا يسعدنى أن أهنئكم جميعًا بعيد الميلاد المجيد. وفى روح الميلاد نتأمل فنرى نماذجَ مضيئةً لأشخاصٍ انعكست فى سلوكهم سماتُ مجتمع المتانة، وتُلهمنا ردود أفعالِ كلٍّ منهم تجاه طفل المذود؛ فمنهم من استطاع صناعة القرار فى وقتٍ مناسب رغم التحديات التى واجهها، من خلال امتلاكه أدوات المعرفة، ومنهم من استوعب الجميع، ومنهم من آمن بالتكامل. وكل هذه سمات رئيسيَّةٌ لمجتمع المتانة والمرونة. أول وأهم الشخصيات المحورية فى قصة الميلاد، هى السيدة العذراء مريم، فتاة فى إحدى قرى فلسطين تأتيها بشارة من السماء بأنها ستحبل وتلد دون زواج, كارثة بمقاييس مجتمعاتنا الشرقية، وتحدٍّ خطير قد يكلفها حياتها. وضعها هذا أمام لحظةٍ حاسمةٍ، قرار صعب، لكنها اتخذت قرارها بقبول بشارة الملاك، وقالت بثقة: هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِى كَقَوْلِكَ. امتلكت مريم العذراء أدوات اتخاذ قرارها المبنى على الثقة فى الله وعلى تواضع أمام أمر الله. هذا الموقف الذى تحلت فيه السيدة العذراء بالمتانة فى وجه العادات والتقاليد والشكل الاجتماعى جعل مريم العذراء مطوَّبةً ليس فقط فى المسيحية. شخصية أخرى لا يمكن نسيانها هى شخصية يوسف النجار. كان يوسف رجلًا يهوديًّا تقيًّا، وجد الفتاة التى سيتزوجها حاملًا. هذا الموقف فى غاية الحساسيَّة فهو يعد فضيحة بكل ما تحمله الكلمة من معني، ولكون يوسف رجلًا بارًّا أراد تخليتها سرًّا بدلًا من فضحها. لكن الأوضاع انقلبت إذ ظهر له ملاكٌ قائلًا: لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّ الَّذِى حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. وهنا وُضع يوسف أمام اختيارين، كلاهما صعب، لكنه أظهر هذه المتانة والمرونة بأن قَبِلَ أن يكون تحت مساءلةٍ فى أعين كلِّ من يشكُّ فى نسب الطفل يسوع، اتخذ يوسف النجار قرارًا مبنيًّا على المعرفة والثقة فى رسالة الله، رغم أن السماء لم تتواصل مع الأرض قبل هذا الوقت بنحو أربعمائة سنة، وهذا ربما كان يعد سببًا قويًّا يجعل يوسف يرفض الرسالة، لكنه قبل بالإيمان وبحساسية روحية رسالة السماء الواضحة التى نقلها له الملاك بأن يسوع المسيح هو المولود من الروح القدس. وأيضًا نرى رعاةً يسهرون طوال الليل لحراسة أغنامهم، مصدر رزقهم، هؤلاء أيضًا تتجسد فى قصتهم لمحة من لمحات المتانة والمرونة. يظهر لهم ملاك الرب مبشرًا إياهم بميلاد الطفل يسوع. ويخبرنا الكتاب المقدس أنهم خافوا خوفًا عظيمًا. كان يمكن أن تنتهى قصة هؤلاء الرعاة عند هذه النقطة لو كانوا قد تجاهلوا هذه الرسالة. لكن بعد مضى الملائكة قالوا لبعضهم: لِنَذْهَبِ الآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِى أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ. هذا القرار كان بمثابة ممارسة لمبدأ المتانة والمرونة إذ اتجهوا نحو الاستيعاب بقبول رسالة السماء لهم وليس الاستبعاد الذى كان سيوقفهم عند نفس النقطة.وتخبرنا رواية ميلاد يسوع فى إنجيل متى عن زيارة المجوس الثلاثة وهى من أشد الأحداث اللاحقة للميلاد ارتباطًا به، ولا يُعرف من الإنجيل كم عددهم، لكن التقليد اعتبرهم ثلاثةً؛ نظرًا للهدايا الثلاث التى قدموها وهى الذهب والبخور والمر، بعد أن سجدوا له. وتشير التقاليد القديمة إلى أنهم جاءوا من العراق أو إيران حاليًا وأنهم كانوا يدينون بالديانة الزرادشتية. وقد قادهم نجم لامع من بلادهم إلى موقع الميلاد. ونرى فى قدوم المجوس مع الرعاة إشارتين؛ الأولى لاجتماع الأغنياء والفقراء حول يسوع، والثانية اجتماع اليهود والوثنيين حوله أيضًا، مع العلم بأن الوثنيين فى الثقافة اليهودية كانوا يُعدُّون نجسين. وهكذا نرى فى هذا مقاومة صلبة تؤكد مبدأ المساواة، فرسالة الإنجيل للجميع، دون تفرقة على أى أساس، رسالة الإنجيل عمومية لكل البشر. وفى النهاية ونحن فى روح الميلاد علينا التحلِّى بحساسية روحية تجاه رسالة الله لنا، فهذه الحساسية الروحية الناتجة من اقترابنا من الله بروح تواضع وخشوع ستخلق بداخلنا نوعًا من المتانة والمرونة تجعلنا قادرين على تخطى الأزمة، مما سيجعلنا مؤهلين لكى نكون نورًا وملحًا للعالم، بأن نقدم للجميع بشارة الميلاد التى أعلنتها الملائكة: االْمَجْدُ للهِ فِى الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ».
رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر لمزيد من مقالات د. القس أندريه زكى