نادرا ما يكون التغيير وسيلة لترسيخ الوضع القائم وليس وسيله لتبديله وإحلال وضع آخر مكانه، لكن هذا ما حدث منذ أيام فى المملكة العربية السعودية، حين أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز عددا من الأوامر الملكية بتغيير من يشغلون بعض أهم المواقع السياسية فى المملكة، سواء من الوزراء الذين يتولون بعض الوزارات السيادية، أو أعضاء مجلس الشئون السياسية والأمنية الذى يرأسه ولى العهد الأمير محمد بن سلمان، أو فيما يتعلق بالحرس الوطنى الذى يعتبر أحد أهم الأذرع الأمنية فى البلاد. فقبل ساعات من انتهاء الدورة ال 33 للمهرجان الوطنى للتراث والثقافة المعروف باسم الجنادرية، فوجئنا أثناء وجودنا بالعاصمة الرياض، بأن رئيس الحرس الوطنى الذى يقيم المهرجان والذى وجه لنا الدعوة لحضوره، قد تم تغييره بمرسوم ملكى وحل محله عبد الله بن بندر بن عبد العزيز، ابن عم ولى العهد، كما تم إعفاء وزير الخارجية عادل الجبير الذى لمع فى الفترة الأخيرة، حيث أصبح وزير دولة للشئون الخارجية، بينما عين إبراهيم العساف وزير المالية السابق، وزيرا للخارجية، وقد كان العساف من بين الأمراء ورجال الأعمال الذين تم احتجازهم فى نوفمبر 2017 بفندق ريتس كارلتون، وإن كان قد قيل إنه تم الإفراج عنه دون أن توقع عليه أى من الجزاءات التى وقعت على بقية المحتجزين، كما طالت الأوامر الملكية عددا آخر من المناصب والمسئولين كان من بينهم وزراء الداخلية والعدل والتعليم والصحة والثقافة وشئون مجلس الشورى، وربما كان من أهم التعديلات التى تضمنتها الأوامر الملكية إعادة منصب مستشار الأمن القومى والذى أصبح يشغله الآن بدرجة وزير دولة رجل القصر الملكى الدكتور مساعد بن محمد العيبان المتخرج من جامعة هارفارد الأمريكية. ورغم المفاجأت الواردة فى بعض الأسماء سواء فى التعيينات أو الإقالات التى تضمنتها القرارات الملكية، إلا أن التغيير فى حد ذاته لم يكن مفاجئا، فقد كان منتظرا منذ فترة على أثر حادث مقتل خاشقجى، وبالنظر للضغوط التى واجهتها السعودية والمطالبة بسرعة محاسبة المسئولين عن الجريمة وإجراء ما يستتبعه ذلك من تغييرات فى المناصب العليا بالدولة، وظل المراقبون يتابعون كل صغيرة وكبيرة تحدث فى المملكة ويفسرون كلا منها وفق هذا التوقع، وعلى سبيل المثال فحين عاد الأمير أحمد بن عبد العزيز، الأخ الأصغر (غير الشقيق) للملك، من لندن التى كان يعيش بها طوال السنوات الماضية، انتشرت على الفور شائعة تقول إنه سيعين وليا للعهد خلفا للأمير محمد بن سلمان، الذى لن يبقى فى موقعه، لكن الحقيقة أن التعديلات الأخيرة لم تمس ولى العهد من قريب أو بعيد، بل هى دعمت قوته داخل جهاز الدولة، فماذا يعنى ذلك؟ وبعيدا عن تقييم التعديلات التى تضمنتها القرارات الملكية الأخيرة، فإن مما لا شك فيه هو أن فى تلك القرارات رسالة واضحة - مقصودة أو غير مقصودة - بأن المملكة العربية السعودية تملك قرارها، وأن القرارات الأخيرة لا تعكس بأى حال من الأحوال ما كانت تدفع إليه الضغوط الدولية، خاصة تلك الآتية عبر المحيط الأطلنطى من الكونجرس الأمريكى. إن قراءتى للتغييرات السياسية التى شهدتها السعودية خلال هذا الأسبوع تقول إن المملكة بعد أن عزلت من كانوا مسئولين بشكل مباشر عن جريمة اغتيال عدنان خاشقجى، ووجهت بإجراء تحقيق جنائي فى الموضوع، فإنها قررت إغلاق هذا الملف، وأنها ستمضى فى تطبيق سياساتها الجديدة التى يقودها ولى العهد محمد بن سلمان، أما مدى تقبل الرأى العام السياسى فى الدول الحليفة للسعودية بهذا الموقف فتلك قصة أخرى. وينبع موقف السعودية فى هذا الشأن من قناعة راسخة بأن قضية خاشقجى قد تم تسييسها لأغراض خفية لا تتصل كلها بالدفاع عن حرية التعبير وحماية حقوق الإنسان، وقد حدثنى فى هذا الموضوع أحد الأشخاص المتنفذين خلال لقاء معه تفضل به هنا فى الرياض، حيث قال إنه كانت هناك نكتة تروى وقت الغزو الأمريكى البريطانى للعراق تقول إنه على أثر اجتماع قمة جرى وقتها بين الرئيس الأمريكى جورج بوش ورئيس الوزراء البريطانى تونى بلير، عقد الزعيمان مؤتمرا صحفيا قالا فيه للصحفيين إنهما اتخذا قرارا بقتل 20 مليون مواطن عربى وطبيب أسنان واحد، فتركزت أسئلة الصحفيين طوال المؤتمر الصحفى على طبيب الأسنان الذى اهتموا جميعا به، وتنوعت أسئلتهم حول هويته وأسباب قتله إلى آخره، ولم يطرح أى منهم سؤال واحد حول ال20 مليون عربى الذين سيتم قتلهم، ولماذا سيقتلون؟ وبأى ذنب؟، وقال محدثى: أنت تعلم، وأنا أعلم، والعالم كله يعلم، أن هناك الآلاف فى العالم تعرضوا فى السابق، ويتعرضون فى الحاضر، لما تعرض له خاشقجى، سواء فى سجون التعذيب الكبرى مثل جوانتانامو وأبو غريب، أو حتى فى أقسام البوليس فى بعض دول العالم الثالث، فلماذا الاهتمام بطبيب الأسنان وحده؟ لماذا لا يتم الدفاع عن العشرين مليون عربى؟ وأضاف أن بعض الدول التى تدعى الدفاع عن حرية التعبير تأتى على قمة الدول التى تنتهك حرية التعبير وتعتقل فى سجونها العدد الأكبر بين دول العالم من الصحفيين والمعارضين السياسيين، ثم يؤكد أن ما حدث فى القنصلية السعودية فى اسطنبول جريمة شنعاء ينبغى التحقيق فيها، وقد اتخذت المملكة الإجراءات اللازمة فى هذا الشأن، لكن هناك رؤية إستراتيجية تحكم سياسة المملكة على طريق الإصلاح والتقدم، وليس هناك فى تلك الاستراتيجية موضع للضغوط التى تقبع وراءها دوافع سياسية مستترة. تلك هى الصورة كما تبدو فى الرياض، سواء قبلناها أو لم نقبلها، وهى التى توضح لماذا جاءت التغييرات الأخيرة بغير ما كان يتوقعه البعض. لمزيد من مقالات محمد سلماوى