الكتابة الساخرة, شعرًا أو نثرًا, أصعب ألوان الكتابة، إذ تحتاج مبدعًا من العيار الثقيل، ذكيًا وصاحب بديهة حاضرة، يتميز بقدرة على التلاعب بالألفاظ وتوظيفها لخدمة غايته، والتى غالبًا ما تكون الإصلاح السلوكى والاجتماعى والسياسي، فعلها قديمًا نثرًا الجاحظ فى كتابه البخلاء، وأبو دلامة وأبو الحسين الجزار شعرًا، وحديثًا بيرم التونسى وحسين شفيق المصرى شعرًا، وعبد العزيز البشرى وفكرى أباظة وغيرهما نثرًا، وللأسف هذا اللون يكاد ينقرض، إذ برحيل الساخرين أحمد رجب وجلال عامر وأحمد عبدالله, ميكى ماوس، خلت الساحة النثرية من الساخرين، وكاد الشعر الحلمنتشى أن يختفى برحيل شوقى أبو ناجي، لولا قلة من الشعراء أبرزهم د. مصطفى رجب والمهندس ياسر قطامش. وهذه الأيام نحيا ذكرى مبدعين ساخرين، أولهما كامل الشناوى الذى تحل اليوم الذكرى 110 لمولده، وقد كانت حياته مثل كتاباته سلسلة من الأحداث الساخرة، إذ أريد له السير على درب والده الشيخ سيد الشناوى رئيس المحكمة العليا الشرعية، وعمه الإمام الأكبر الشيخ محمد مأمون الشناوى شيخ الجامع الأزهر، ودخل كامل الأزهر لكنه لم يلبث به أكثر من 5 سنوات، وفُصل لأنه شوهد يأكل أكله غريبة «البسطرمة»، ولاقى الفصل هوى فى نفسه، إذ طالما تمنى مجالسة الأدباء والشعراء، فكانت بداية انطلاقته صحفيًا وشاعرًا. ومن المفارقات أيضًا فى حياته أن عذابه فى حب مطربة شهيرة، أفرز نتاجًا شعريًا رائعًا، شدا به كبار المطربين ومنهم المحبوبة التى استغلت حبه فى استنزاف أحاسيسه، لتتحول إلى قصائد تشدو وتزداد شهرتها بها، ولم يكن ذلك بخاف عليه، لكنه يرى أن الحب من غير أمل أسمى معانى الغرام، فكان يدارى لوعة القلب بالنكات والقفشات وتدبير المقالب للأصدقاء، وعبر عن حاله بقوله: «ما من ابتسامة ارتسمت على شفتى إلا دفعت ثمنها دمعًا وأنينًا». وإذا كنت لم أعرف كامل إلا من خلال شعره وسيرته، فأنى سعدت بمعرفة الوالد والأستاذ جليل البنداري، الذى حلت الذكرى الخمسون لوفاته يوم 29 نوفمبر الماضي، وكان أبرز كتاب الزوايا الساخرة فى تاريخ الصحافة العربية، وكاتبًا ومؤلفًا لعديد من روايات السينما فى عصرها الذهبي، ولم ينج أحد من سوط قلمه الساخر، لدرجة أن قالت عنه الفنانة تحية كاريوكا مستخدمة أسلوبه (هو «جليل» الأدب ونحن «بندارى» عليه)، وبرغم ذلك أحبه الجميع لطيبة قلبة وطهارة نفسه، وقد قيض لى أن ألتقيه نحو 6 مرات فى شقته بعمارة السعوديين عند حديقة الحيوان خلال سنتى الجامعية الأولي، حيث أهديته أول كتاب صدر لى عن مدرستى النقراشى النموذجية الثانوية، وبرغم أن الكتاب لم يكن ذا قيمة علميًا إلا أن كاتبنا الكبير أسعدنى فى صبيحة أحد أيام شهر فبراير 1968م بالكتابة عنه والإشادة به فى زاويته «أنا والنجوم»، ولم ينس بالطبع أن يجلد بقلمه صديقه أستاذى الراحل د. أحمد كمال زكى الذى أشرف على الكتاب وقدم له... يرحم الله «كامل وجليل». لمزيد من مقالات أسامة الألفى