من يتابع أطوار الاحتجاجات فى العاصمة الفرنسية باريس يصاب بالصدمة من عنف الأحداث, إذ كيف تحولت عاصمة الأنوار، وجادة الشانزليزيه، نبض السياحة، وقوس النصر برمزيته التاريخية، الى ساحة للاحتجاج والنهب، وتخريب المبانى العامة والخاصة، وإشعال النيران، وتشويه حضارة فرنسا وتحطيم تاريخها، فى لحظة غضب هى الأعنف منذ عقود طويلة. كان قرار رفع أسعار الوقود السنة الماضية، بنسبة 23% تقريبا، ورفع ضريبة الوقود الاحفورى هذه السنة (كجزء من حملة لتشجيع الوقود النظيف)، بمثابة القشة التى قصمت ظهر البعير، وأخرجت المارد الفرنسى من قمقمه، بعدما حول بوصلة احتجاجاته ضد رفع الاسعار وتراجع القدرة الشرائية الى مظاهرات أوسع ضد ماكرون وحكومته، التى لم تجد بعد وسيلة لنزع فتيل الأزمة المشتعلة بالبلاد. فعلى الرغم من قناعة جمعيات ومنظمات فرنسية بأن ارتفاع أسعار الوقود هو واحد من التدابير اللازمة لتسريع خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، إلا أن أغلبيتها انتقد عدم كفاءة سياسة إيمانويل ماكرون، خاصة عندما تتجاهل الواقع القاسى للفقراء، مقابل إجراءات ضريبية مواتية للأغنياء ورفض توجيه الاتهام إلى كبار المسئولين عن الاضطرابات المناخية. من هذا الواقع، حظى المحتجون الفرنسيون، او ما يطلق عليه بحركة السترات الصفراء، بتأييد واسع من الرأى العام. بينما وقّع على عريضة لخفض أسعار المحروقات أكثر من مليون شخص. فيما تراوحت مواقف المعارضة، سواء اليمينية أو اليسارية، بين داعم ومتوجس من التعرض لاتهامات بمحاولة ركوب الموجة واستثمارها سياسيا. والشيء الأكيد وسط هذا الوضع الاجتماعى الغاضب، والموقف السياسى الذى ينتظر لحظة الانقضاض، هو أن الرئيس الفرنسى فى مأزق حقيقي، وهو الذى يعلم جيدا ان الروح الثورية لدى شعبه هى جزء من تاريخه النضالى مما يجعل استسلامه صعبا، وقبوله بأنصاف الحلول غاية بعيدة المنال. صاغت حركة السترات الصفراء لائحة مطالبها، بما فيها رحيل الرئيس الفرنسي، وطلبت إدراج هذه اللائحة للتصويت عليها فى استفتاء شعبي، وأكد ممثلو الحركة، أنهم على استعداد للتواصل الجدى مع ممثلى الحكومة، التى قالت إنها على استعداد للحوار وفق شروط معينة، منها التراجع عن المطالبة بحل الجمعية الوطنية (مجلس الشعب) أو استقالة رئيس الجمهورية. وبين الموقفين تبقي، فى جميع الحالات، شعبية ماكرون على المحك بعدما تراجعت لأدنى مستوياتها، بحيث لم يعد يتجاوز مؤيدوه 26%، بينما يتهمه معارضوه من المحتجين بالإخلال بوعوده الانتخابية فيما يتعلق بمراعاة حقوق الطبقات الوسطى والفقيرة، بل وأطلقوا عليه لقب رئيس الأثرياء، فى تعبير واضح عن مدى شعورهم بالتفاوت الطبقى وغياب العدالة الاجتماعية. لقد كشفت احتجاجات السترات الصفراء حجم الاستياء الشعبى العام ضد سياسات ماكرون الاقتصادية، بعدما شارك مختلف فئات الشعب الفرنسى فيها دون تمييز فئوى أو حزبي. وكشفت أيضا أن المساس بالقدرة الشرائية للمواطنين، سواء فى الشرق او الغرب، هو خط أحمر ولعب بالنار. فعندما يتعلق الامر بالمساس بجيوب المواطنين، وتبنى سياسات تصب فى مصلحة الطبقات الغنية وتزيد من أعباء الطبقات المتوسطة والفقيرة فالنتيجة تكون دائما احتقانا اجتماعيا تزداد وتيرته بازدياد الضغط على المواطن الى ان يصل الى لحظة الانفجار التى لا يمكن التحكم فيها ولا فى حجمها وعواقبها. وهذا ما تعيشه فرنسا الآن. ففى الوقت الذى يطالب فيه المحتجون بالعودة الى رأسمالية اجتماعية توفق بين قواعد السوق وبين احترام أوضاع الطبقات الاجتماعية المتضررة، تكون التكلفة الاقتصادية للاحتجاجات الفرنسية، التى اندلعت منذ أكثر من ثلاثة اسابيع، قد كبدت الاقتصاد الوطنى خسائر بمليارات الدولارات، بسبب إلغاء الآلاف من الحجوزات السياحية بسبب الأحداث المضطربة. وبسبب الحظر الذى فرضته حركة السترات الصفراء على بعض مستودعات الوقود، وعلى المقاولات الزراعية، ووسائل النقل بمختلف انواعها، وعلى الماركات التجارية التى تأثرت طوال العام بالقوة الشرائية الضعيفة، والتى كانت تعول على الرواج الذى تشهده عادة آخر السنة لتعويض خسائرها, لولا الاحداث الاخيرة التى سوف تزيد من أزمة هذا القطاع. أما التكلفة السياسية فتبقى هى الاكبر، إذ إن الاحتجاجات تقوى من موقف اليمين بعد إخفاق السياسات التقليدية فى حل الأزمة، ويمكن أن تقود الاحتجاجات الى ضغط محتمل على الرئيس ماكرون من أجل إرغامه على تقديم استقالته والدعوة لانتخابات رئاسية سابقة لأوانها، او فى أحسن الحالات الإبقاء على ماكرون لحين نهاية ولايته مع احتمال كبير بأن تشهد الانتخابات المقبلة صعودا واضحا لليمين المتطرف. لقد كانت فرنسا على مدى تاريخها قلعة للنضال السياسى والثقافى منذ عصور الظلام التى سادت أوروبا فى العصور الوسطي، الى الثورة الفرنسية التى رفعت شعارات الإخاء والمساواة وحقوق المواطنة، الى ثورة الطلاب، فى منتصف الستينيات من القرن الماضي، التى أطاحت بالرئيس شارل ديجول، الى حركة «السترات الصفراء». فهل سيعيد التاريخ نفسه، ام سوف تتجاوز فرنسا أزمتها الحالية، بتدارك سياساتها، قبل ان تحصد المزيد من الغضب وترفع من سقف المطالب. لمزيد من مقالات ◀ وفاء صندى