دراسة أبحاث الأحوال المائية المصرية أمر ممتع ومشوق، يضيء العقل بالمعرفة وبتاريخ ذلك النهر الخالد فى رحلته وتاريخه الذى بدأ من نحو 6 ملايين سنهةتغير خلالها مساره كما تغير اسمه من فجر النيل الأيونيل إلى الباليونيل (النيل القديم) ثم إلى النيوتيل (النيل الحديث) لكن كان دائماً مصدر الحياة ورمز الخلود. قدسه الفراعنة، وعشقته عروس النيل وظل جزءامن تاريخ مصر وتراثها. هو الأب الشرعى للزراعة التى يرى أغلب الباحثين أنها بدأت فى مصر عقب فترة الجفاف فهاجر سكان الصحراء الى وادى النيل وبدأت الزراعة (ويقال إن المرأة أول من اكتشفتها، لأن الرجال كانوا يخرجون للقنص والصيد وهى فى إطار المنزل وما حوله من اراض). يسرد تاريخه عاشق النيل د. رشدى سعيد بأسلوبه العلمى الشيق يصف الفترات الأربع التى مر بها، ويشير إلى أقدم سجل لقياس مناسيب الفيضان وهو الموجود على حجر باليرمو، لوح حجرى يرصد هذه المناسيب من عصر الملك جو جر نحو 3050 ق.م من الأسرة الأولى الى الخامسة ذلك النيل الذى أعشقه، أقف أمامه أحيانا أناجيه واعتذر له عن سلوكنا جميعاً معه واتساءل ماذا سيقول لو تكلم وهو الذى عاصر تاريخنا. اخترق إفريقيا وعاش كل ما بها من اختلاف وتشابه وتعجب من الصراع حوله. أشرنا إلى بعض الاتفاقيات الخاصة بمياه النيل التى تمت فى عهود الاستعمار ثم تغيرت الأحوال.. إثيوبيا تعتبر اتفاقيتها مع بريطانيا سنة 1902 لاغية.. وهناك عدد من الاتفاقيات الأكثر حداثة مع إثيوبيا والسودان، ومشروعات متعددة مهمة للتخزين المستمر فى أعالى النيل وتقارير عن المواقف الراهنة للاتفاقيات حول النيل وعن مستقبل استخدام مياهه، يتناولها د. رشدى سعيد فى موسوعته، لابد أن يعرف عنها كل من يهتم بأمره ويدرسها ويستفيد منها المسئولون والعاملون فى هذا المجال. نشير هنا إلى أمور ثلاثة: ملامح من التعاون الإقليمى حول النيل، الوضع القانونى الدولى ثم التحديات السياسة. أولاً: شغل موضوع التعاون بين إثيوبيا والسلطات المصرية والسودانية لسنوات طويلة منذ بدء التفكير فى إنشاء مشروعات التخزين المستمر فى أوائل القرن العشرين. هذا التعاون لم يتحقق على الرغم من الوساطة التى قامت بها الحكومة الإيطالية لدى السلطات الإثيوبية للسماح بإقامة خزان على بحيرة تانا وكانت هذه الوساطة جزءاً مما تعهدت به ايطاليا فى المذكرات المتبادلة بينها وبين بريطانيا، بوصفها وكيلاً عن السودان فى ديسمبر 1952 نظير أن تقوم الحكومة البريطانية فى المقابل بمساندة الحكومة الإيطالية فى الحصول على امتياز من الحكومة الإثيوبية بإنشاء وتشغيل خط حديدى بين ارتيريا والصومال الإيطالى عبر اثيوبيا!. هناك محاولة اخرى للتعاون مع إثيوبيا فى مجال استغلال مياه النيل فى الثلاثينيات من القرن العشرين عندما سمحت السلطات الإثيوبية للخبراء بزيارتها للقيام بمسح لبحيرة تانا بغرض اقامة خزان عليها وفى سنة 1935 تقدمت حكومتا مصر والسودان بطلب الى اثيوبيا لبناء خزان على البحيرة على نفقتهما ظل المشروع موضوع مفاوضات لأكثر من عشر سنوات قبل رفضه فقد رأت اثيوبيا أن المشروع لا يعطى أولوية لتوليد الكهرباء الذى تعتبره هدفها الأساسى من تنمية حوض النيل الأزرق وباستثناء الاتفاقيات الناجحة التى ابرمتها مصر مع السودان فإن الاتفاقية الوحيدة التى استطاعت مصر أن تبرمها مع أى من دول الحوض كانت مع أوغندا بشأن إنشاء خزان شلالات اوين الذى اقيم 1945 وسبق الإشارة اليه. وعند التفكير فى بناء السد دخلت مصر والسودان فى مفاوضات 1959حيث اتفقا على تقسيم المياه التى سيوفرها السد وقدرت بنحو 22 بليون م3 فى المتوسط فى السنة وأصبح نصيب مصر 55.5 بليونم3 والسودان 18.5م3 سنوياً ثم وافقت مصر على أن تقوم السودان ببناء خزان الرصيرص على النيل الأزرق بشروط. ثانياً: القانون الدولى ومياه الأنهار المشتركة لا يوجد قانون تقبله وتطبقه جميع الدول لكن هناك أعرافا دولية استقرت منذ 300 سنة والتزمت بها أنهار أوروبا. عام 1969 فى هلسنكى وضعت جمعية القانون الدولى قواعد عامة تنظم العلاقات بين الدول المشاركة فى النهر وهى الأساس الذى أصدرت عليه الأممالمتحدة عام 1997 الاتفاقية الذى سبق الإشارة اليها ومن أهم قواعدها العدالة فى توزيع المياه وألا تأتى أى من الدول بما يضر بدولة أخرى. والمفروض أنها حلت محل مبدأ هارمون الذى كان يعطى الدولة السيادة الكاملة على الأنهار التى تمر بها دون مساءلة. إلا أنها لم تلتزم بها بعض الدول مثل شيلى بالنسبة لنهر لوكا وتركيا بالنسبة لدجلة والفرات وإسرائيل مع نهر الأردن، لكنها وضعت حداً لمبدأ هارمون الذى كان يعطى الدولة السيادة الكاملة على الأنهار التى يمر بها دون مساءلة. ثالثاً:أصبح التعامل مع مياه النهر والعلاقة بين الدول المشاركة أمر يخضع لاعتبارات سياسية وليس فقط مائية أو تنموية، ومصر على الأخص تعانى من ذلك الكثير. هناك محاولات متعددة المصدر مختلفة المجال كلها تحاول منع وصول الكميات اللازمة من إثيوبيا والسودان إلى مصر رغم أنها الدولة التى تعتمد أساساً على مياه النيل بينما كلا الدولتين لهما مصادر أخرى كافية. ويعالج النظام المصرى قيادة وحكومة تلك الأوضاع المؤسفة بحكمة وهدوء وتعمل على بناء الثقة مع إثيوبيا والتعاون مع السودان كجزء من اهتمامها الصادق بتنمية إفريقيا موقف يستحق الإشادة به. يصل بنا الحديث إلى واحدة من أهم التحديات المائية وهى الفاقد والإهدار ولها الحديث القادم. لمزيد من مقالات د. ليلى تكلا