يمشى عم كمال بتؤدة، كأنه يدخر خطواته لوقت «عوزة «. أراقبه منذ سنوات.. انحناءة الظهر، والجلابية الوحيدة، والقلب الممتلئ بالرضا ، كما هى. لم أسمعه يشكو قط، هو الذى يحمل على ظهره 73عاماً ويعول همّ ابنة مطلقة وحفيدة منها، وهمّ ولد معوق وآخر عاق، وتنتابه، إلى ذلك، إغماءات السكر. قال لى بفم يكاد يخلو من الأسنان:» إمبارح لم يكن معى قرش صاغ. وفجأة جاء واحد، غايب من سنين، أعطانى 100 جنيه ومشى»! حياته، وهيئته نفسها، مرتجلة.. هو يحرس البيوت والمحال، والسماء تدبر أمره. من صمته وكتمانه، وأمانته قبل أى شىء آخر، يستمد الرجل حضوره فى شارع محمد أبو زيد بالمقطم. ثم إنه يسقى النخيل، وكلما ذبلت نخلة ازداد وجهه كرمشة كأنه فقد أخته. حين يخدمك يأخذ منك ما تعطيه له، دون أن ينظر إليه ثم يدسّه فى جيبه. حتى إن كثيرين يستغلونه طوال اليوم ولا يناله منهم غير «شكراً يا عم كمال». ورغم أنه ذهب إلى المدرسة 6 سنوات كاملة، إلا أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولا فاتن حمامة. لا شىء يربط «عشّته» بالعالم سوى الليل والنهار، لكن لديه، فى العشة، كفايته من الخبز والذكريات.. يتذكر جيدًا عدد الفئوس التى بدّلها، لأنه يؤرخ بها لحياته، فهو لم يعرف سوى زراعة الأرض. هكذا أخبرنى بقبضة صارمة كأن الشباب يعاود ذراعيه المقوستين حين يتذكر الفأس. منذ أتى من بنى سويف إلى القاهرة فى عام 1990م والدرب لم يتعرج تحت قدميه. وإن لم يحصد سوى الخيبة فى ولديه. غير أن «هاجر»، حفيدته التى رباها وعلمها، تجعله ينتظر الغد. هى ورغبة قديمة لا يعرف كيف تتحقق..أن يزور النبىّ. مع ذلك لم يفقد الأمل، لأن عم كمال.. بانتظاره، بالتراب الذى يعلو أكتافه، وطاقيته المتجهة دائماً للسماء، بأصابعه المعوجة ، كله على بعضه ترجمة لمقولة أن « القدر يوجه من يرضى ويجرجر الساخطين».