ذات ليلة دعا «اوولين شيب» رئيس تحرير جريدة الشعب الصينية المرحوم الأستاذ محمد حسنين هيكل على العشاء فى مطعم بط بكين الشهير، كان العشاء سبعة أطباق من بطة واحدة ، خمس قطع باردة مختارة من البطة فى أول طبق ، والثانى من كبد البطة مقليا، والثالث أضلاعها مع الصلصة، وقلبها محمَر فى الرابع، ولسانها وأمعاؤها والبنكرياس مطبوخة مع الخضر فى الخامس، وجسمها نفسه وهو الطبق الرئيسى مشويا فى السادس، وعظامها مسلوقة فى الحساء فى النهاية. يومها قال الأستاذ لوولين شى «لم يبق من البطة غير ريشها أرجو ألا نأكله» فرد بالطبع لا ولكن المطعم يبيع الريش لأغراض صناعية، وبها يفسر الأستاذ أحد أهم أسباب معجزة الصين فى استغلال كل مورد وقيمة مهما تكن صغيرة وتافهة فى نظر البعض. تذكرت ذلك ودقات قلبى تتسارع خوفا وفزعا مما قرأته عن خطة لزراعة القطن الأمريكى قصير التيلة بديلا عن القطن المصرى طويل التيلة، هذا الخبر المفزع الذى يبعث على الكآبة والضيق به نقطة ضوء واحدة أن خمسة من الرؤساء السابقين لمعهد بحوث القطن رفضوا خطة الوزير بشدة وأكدوا خطورة تنفيذ مايريده من تجربة زراعة قصير التيلة فى منطقة معزولة خارج الدلتا والوادى قبل بدء تعميمه، وما جاء فى الخبر المنشور فى «جريدة الوطن» قول الوزير إن هذا مطلب حكومى استجابة لاحتياجات الشركة القابضة للغزل والنسيج. فى الصين يبيعون حتى ريش البط للاستفادة منه، ونحن نضِيع ثروة عظيمة بل تاريخ مصر وأهم ميزاتها النسبية التى لا يوجد لها مثيل فى العالم كله، إن ما تريده الحكومة كمن يريد هدم آثار الفراعنة ويبنى مكانها أى حجارة والسلام. إذا كنا نريد تحديث مصر فيجب التمسك بالتراكم المستمر لمزيج من الأصالة والمعاصرة والالتفاف حول نقاط التميز والانفراد والارتقاء، وفى تربة مصر ومن أسباب سعدها على طول الزمان كان القطن المصرى مصدر افتخار المصريين ومباهاتهم أمام الأمم بطويل التيلة الذى يتيه على كل أنواع القطن فى العالم، فى عهد محمد على زرعت مصر عام 1820 45 طنا وفى عام1828 زرعنا 9150 طنا، وفى 1920 زرعنا 365 ألف طن وكان يصدر إلى دول العالم ، وفى عام 2013 انحدر الإنتاج إلى 9 آلاف طن. لقد حاولت أمريكا زراعة القطن المصرى طويل التيلة فى تربتها فلم يكن بنفس جودته فى تربة مصر، إننى أدعو أعضاء القابضة للغزل والنسيج الذين يريدون دفن القطن المصرى والترحم عليه وأن نتشح بالسواد حزنا عليه أن يزوروا المحال الأمريكية التى تفتخر ببيعها ملاءات مصنوعة من قطن جيزة المصرى الناعم مثل الحرير بألفى دولار للطقم الواحد، والأدهى والأمَر أن زباءنه من معظم دول الخليج والصين وسنغافورة وغيرهم كثير ، فى زيارة منذ أعوام لشركة صباغى البيضا لا أنسى ماقاله مرشدنا إن شعار الشركة المطبوع على كل ثوب من القماش كان يفتح لمصر أبواب مصانع الملابس فى فرنسا نتيجة سمعته فى الرقى والمتانة ونظافة الصباغة. فى كل بلاد الدنيا يستغلون كل شبر وكل مورد وكل ميزة حباهم الله بها لتعظيم الناتج القومى لبلادهم، ففى اليابان ونتيجة لطبيعة بلادهم الجبلية ومحدودية الأراضى الزراعية فهم يستغلون كل شبر لأقصى حد حتى، إنهم يزرعون التلال والجبال الصغيرة على طريقة المصاطب وبفضل ما يبذله اليابانيون من جهد وفكر وعمل وتحسين دائم وتطوير فى الميكنة أصبحت أراضيهم من أجود الأراضى الزراعية فى العالم وأكثرها إنتاجية ،لم يقفوا عاجزين مكتوفى الأيدى بل حافظوا على محصولهم الاستراتيجى وطعامهم الأساسى الأرز ولم يستبدلوه بآخر. ليس الانفصال عن الجذور انفصالا ثقافيا واجتماعيا فقط ولكن الخطر فى الانفصال الاقتصادى الذى تضيع معه ميزاتك النسبية فى الأسواق العالمية شيئا فشيئا وهو ما لا يليق بأم الدنيا. لمزيد من مقالات ◀ سهيلة نظمى