كنت أحسب أن حصوله على جائزة الدولة التقديرية ستسعده أو سيكون للبهجة دور ما قوى فى نسيان الأحزان خاصة أن أعماله القصصية صدرت منذ أسابيع قليلة فى ثلاثة مجلدات كأعمال كاملة الحياة..،إلا أنه لم يزل يذكر الموتى من الرفاق خاصة فى أيامه الاخيرة التى ذهبت فيها روح رفيقته فى الحياة إلى ربها.بات يناجى الماضى. بالإضافة لكونه يرى أنه ليس هناك ادنى اهتمام من الدولة بالكتاب ولا الكتابة ولا حتى الثقافة ولا المثقفين. انه الكاتب سعيد الكفراوى المولود فى عام 1939 والحاصل على جائزة سلطان العويس فى القصة القصيرةعن مجموعته القصصية البغدادية كأول مصرى وعربى يحصل عليها.ثم جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 2016. فمن يراقب القاص سعيد الكفراوى ومشواره الابداعى يكتشف أن وراء هذه الكتابة ثراء ينبع من عالم يشبه الكاتب. حفر فى الذات وفى الواقع. بشر يقيمون هناك فى قرى مطروحة أرضا على ضفاف أنهار قديمة، تعيش زمنا يعيش جدلية حياته وموته. وأنا حين أتطلع لهذا الكاتب فى أمكنة كان يقضى بها وقته قبل أن يغادره أصحابه، حيث وجه الله: محمد عفيفى مطر وخيرى شلبى وابراهيم اصلان. قال لى مرة إن الأمور لم تعد كما كانت. كم اختلطت على. كم مرات حضرت إلى المقهى لأرى محمد عفيفى مطر وحين أدرك بوعى مغيب أنه رحل أعود مرة أخرى لبيتى على الجبل. قالت الناقدة د. سيزا قاسم عن الكفراوى مرة (كاتب قادر ان يستعيد الماضى، وذاكرته توءم للخيال). والكفراوى لم يكتب سوى القصة القصيرة، له اثنتا عشرة مجموعة. لم يرحل كغيره إلى زمن آخر.منها: مدينة الموت الجميل، ستر العورة،سدرة المنتهى، دوائر من حينى، البغدادية،والتى صدرت منذ أيام فى طبعة رابعة عن الهيئة العامة للكتاب..حكايات عن ناس طيبين ..................................... سألته لنبدأ بزمن الطفولة. أو دعنى أطلق عليه زمن البدايات. هناك فى قرية وسط الدلتا تموج بالطقوس، والموروث الأزلى للحياة القديمة هل ثمة حنين لتلك الأيام؟ اكثر من نصف ما كتبته عن اطفال. كما تعرف فإن الطفل أب الرجل. وخطوات التكوين الأولى وأمكنتها تبعث على الدهشة. هناك سوف تصحبك جدة، او عمة، وتلقى بك فى مساحة مسورة بالطين، وحجرة بالداخل بها نخلة وصفصافة ورجل ضرير يعلمنا القراءة، تسمع الأصوات النحيلة محملة بالشجن، والعالم المحيط ينطوى على المخاوف، تعرفت فى هذا المكان على حروف الهجاء، واكتشفت من خلال صوت مولانا الضرير أن هذا عيشنا، وانك لكى تتميز عليك أن تعرف المعنى ودلالة ما يقوله الشيخ. فى ذلك الزمن انفتح وعيى على النهر والأجران المفتوحة على الليل. كان لى صاحب ابن مقاول غنى نبهنى إلى الاختلاف بين الفقر والغنى، ومن خلال تحديه تعرفت على ان المشقة تغلبها بالكفاح النبيل. وأدركت منذ البواكير أن الحياة تسير بقدر وأن المصريين من الشعوب التى رزحت تحت وطأة هذا القدر. كونتنى الاساطير، والحكايات الأولى التى كنت أسمعها على شاطئ النهر. أندس فى وسطهم مثل جرو وأرى على ضوء النار الموقدة ظل جواد الدار وخالة تضرب على الدف. تذكر قصة زبيدة والوحش، إنها تلك اللحظة التى كونها أول الوعى. أما عن الحنين فكما تعرف أنهم سألوا جارسياماركيز يوما عمن كتب كتبه؟ فأجاب: كتبها الحنين. أنا يضنينى حنينى ويلفحنى مثل هواء الخرف فأرى عبره خواتيم الأعمار، وأشباح من رحلوا، وأسمع من خلاله صوت الجد، وصوت أطفال أصبحوا رمادا، وأستعيد من خلاله ولو من عام يوما. كل رفقة الجيل رحلوا إلى كتابة الرواية وأنت قابع هناك فى صومعة القص، كامن، وكأنك تحرس عطية، أو منحة من القدر.. ما هذا الولع بفن كتابة القصة؟، وإلى متى وتجريب اختلاف الأشكال جزء من العملية الإبداعية؟ منذ البداية، رأيت أن القصة القصيرة هى الشكل الأمثل لكتابة تجريتى لتأمل واقع ما أكتب عنه. هى فى آخر المطاف تحقق الشغف بالحقائق القديمة التى لا تزال صالحة لإثارة الدهشة، والتى تفتح أمام الخيال نافذة لتأمل ما كان. والقصة القصيرة، ذلك الفن الصعب عند باسكال هو الصمت الأبدى للآماد البعيدة التى تجعله ينتفض. كما تعرف أنا عشت عمرى فى تلك المنطقة الغامضة لبشر قضيت يمكن كل عمرى معهم، واعتبرت القصة مثل النبوءة تستدعى الخفى، والهاش، وانها بلا بطل، وانها الشكل القادر للتعبير عن الجماعات المغمورة، التى كانت جماعات كتاب هذا الشكل تشيكوف وهيمنجواى وجوجول وكافكا. هى قصص كتبت بالضرورة لكشف النقائض والتفاعل بينها للوصول لمعنى، قد يكون العدل، الحرية، وربما المعرفة لمجابهة أهوال الحياة والموت. فى كتابك (حكايات عن ناس طيبين) تبدو الحكاية حالة من أحوال البشر، وعن أشخاص اقتربت منهم. أسأل هل البشر هم مصدر الحكاية. أم أن الحكايات موضوعها الناس؟ أحببت هذا الكتاب جدا. كان عن ناس اقتربت منهم، وعشت بينهم. (نجيب محفوظ ويحيى حقى ومحمد عفيفى ومحمد بنيس) والبعض من أهل السكك من ناس هذا الوطن. كان كتابا عن الذاكرة، هذا الكائن الغريب الذى وقف الناس أمامه حائرين، وعجزوا تماما عن فض سره. احتشد الكتاب وامتد معه زمن الطفولة حتى وصل به الحال الى زمن الكهولة والزمن فى الكتاب طبقات من وعى ومحبة لأشخاص ظلوا، بالرغم من رحيلهم ماثلين فى وعيى. يبدو لك الكتاب أنه كتاب للحكايات. كما تعرف أنا أحب قص القصص، وكنت أسعى لكتابة من لحم ودم، كتابة تشعر تجسيد مشاعر ابن آدم، وإحساسه المحنى بالزمن. تجدهم كلهم داخل مكان، وللمكان دلالته، وله امتداده، يجسد الذكر ويأتى بالحنين، واجهتنى عند كتابة (الحكايات) مشكلة الزمن بالذات فأنا حاولت أن أستعيد الماضى وأستحضره، فى الحقيقة الكتاب ليس عن الماضى كما كتبت الدكتورة سيزا قاسم فى دراسة عنه ولكنه عن قدرتنا فى أن نعيش فى كل الازمنة وأن نتخلص من نير التاريخ، ان نخلع الاردية المهترئة المتربة التى يكسونا بها الحاضر. تذكر حكاية الخالة (خضرة) تلك التى كانت تشير ناحيتى وتقول (هذا لبنى يسير على قدمين) كانت أرضعتنى حين جف لبن أمى. وتحممنى وأنا صغير، ومع الماء تأتى الحكمة: لولا النور ما كان الظلام، والرحمة بين الناس عدل، وتنظر من نافذة الدار قائلة: إياك واللئيم خلف البراقع سم ناقع. فى مجموعتك (مدينة الموت الجميل) ثمة امرأة متشحة بالسواد، وسفينة ترحل فيما يبدو إلى لامكان، وطائر نورس وحيد، يطلق استغاثة أخيرة. أى دلالات رمزية أنت شغوف بها فى هذا النص؟ أنا أتذكر أننى كتبت هذه القصة فى الستينيات، حين كان التجريب بين الكتاب، كانت قصة جيدة على مستوى البناء والمعنى دائما ما يذكرنى بها الروائى الكبير بهاء طاهر، وأنا اعتبرت هذه القصة مثل أيقونة بسبب مناخها الغامض. كانت عن سيدة عجوز تبحث عن بنتها التى غرقت بها سفينة. هل كانت البنت وهما، والمرأة مخبولة طوال النص تعيش فى مدينة للموت الجميل؟ أى جمال للموت أنا كتبته؟ وما هى تلك المجرة المنعزلة فى حديقة البيت على البحر؟ وذلك الراوى المحبوس فى وحدة تبدو بلا نهاية؟ أنا لم أكن أسعى عندما كتبت هذه القصة لتأكيد إشارات رمزية ولكن كانت هكذا أحوال الكتابة فى زمن الستينيات. على ذكر الكتابة فى (الستينيات) حدثنا عن وقائع وتفاصيل وحصاد، كتاب وكتابة هذا الجيل؟ جئت فى ذلك الزمن لأبحث عن كتاب هذا الجيل، وكانوا يعقدون جلساتهم على مقهى ريش، فى ندوة الراحل المؤسس نجيب محفوظ، أعرف من صحبك لهذه المقهى. كان الروائى جمال الغيطانى وجدتهم فى ذلك الزمن جماعة يمثلون وثبة مضاءة ضد الثابت، وكان أغلبهم قد جرب الاعتقال اكثر من مرة. وكانت ثورة يوليو وتجاوزاتها الفادحة قد نبهتهم إلى التعامل مع الواقع باعتباره واقعا سياسيا. كنا نعيش فى ذلك الوقت حقبة ضياع الآمال وهزيمة يونيو / حزيران المروعة. وسطوة زعيم مهزوم حتى أذنيه وكنا نتحلف حول كاتب كبير نحبه ونقدره نأتى حاملين مخطوطات قصص فيأخذها يقرؤها ويعيدها مشفوعة برأيه. ظلت حقبة ننتمى لها بسبب اهتمامها بالفقراء، وأننا كلنا تعلمنا فى مدارسها وآمنا بقيمتها عن العدالة الاجتماعية، والتحرر الوطنى، ومقاومة الاستعمار، لكننا جميعا كنا نشكل معارضة لذلك الزعيم الذى استبدل ذاته بالأمة. تمثل القرية القديمة أهم تجليات ما تكتبه.. الآن تغيرت القرية فى شكلها العام، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، فبعد هجرة المصريين للخارج للعمل كإجراء تغير كل شىء. لماذا تهتم كثيرا بالكتابة عن زمن ولى، وزمن انقضى؟ أنتمى لقرية لم يعد باقيا منها شيء لا ناسها، ولا شكلها القديم. مأساة أن يباد عالم رأيته رأى العين، وأنت ما تزال تعيش زمنك. فى قصة (قصاص الأثر) يصرخ بطلها (غايتى أن أستحوذ على زمن يضيع) وعبد الحكيم قاسم وخيرى شلبى ومحمد سنجاب وقبلهم يوسف إدريس وأنا جميعنا عشنا تلك الأزمنة المتراكمة للوعى الجماعى، وذاكرتنا محتشدة بحركة الأسلاف وكثافة حضورهم فى الهياكل المتداعية للدور القديمة.. كما تعرف أنا عشت تلك الأيام، وخبرت عز فقرها وحاجتها، وعشت اعتزازها بروحها. انظر الى ماكتبه هؤلاء الكتاب الأماجد. كلهم يحاولون الحفاظ على ذاكرة تضيع،وبشر يذهبون للنسيان. تفنى المراحل، وتفنى الدور، والبشر يغيبهم النسيان لكنك سوف تجسدهم على الورق. كنت شغوفا بهم، وكان يأخذنى الغرور ويأخذنى الغرور وأحلم بخلودهم على الورق. الآن كما تعرف القرية ليست هى،عم الغنى البعض، والأغلبية يعيشون على الستر متغيرات فادحة فى زمن عم فيه الفساد والثروات الحرام. يشكل الموت فى القصص هاجسا أساسيا فيما تكتب الموت عندك دورة أخرى لوجود الإنسان. ماتلك الحفاوة بذلك الرحيل المحزن؟.. لماذا يمتد نشيدك القادم من الأفق الغربى بهذا الحزن المروّع؟ أنا لم أنظر قط للموت باعتباره نهاية لحياتنا. تذكر أجدادك هؤلاء الذين بنوا تلك المقامات والتكايا والاضرحة، و تلك الأهرام الرهيبة لما بعد الحياة أنا لا أخفى عليك. أنا أخاف من العدم إلى حد الرعب. ينظر المصريون للموت باعتباره استكمالا لمشوار الحياة. وكانت جدتى حين تعلمنى الحكمة تقول: يا ابنى الحياة آخرتها الموت وما دايم الا وجه الله. اعرف من زمان أن الموت يترصد خطاى بالذات بعد أن رحل من عشت بينهم عمرى ويأتوننى الآن فى الاحلام يستحثوننى على المجىء. إن الحضور الآسر للموت فيما أكتبه أعتبره مواجهة لفناء يواجهك.كان ادوار الخراط رحمه الله فى دراسة كتبها عنى يقول ((إن التواجه والتفاعل بين النقائض من خصائص عمل الكاتب أساسه بين مواجهة الموت، والانغماس فى طين الحياة المركب الخصيب)). بالفعل إنها مواجهة بين الموت والحياة. ولقد قال يوما مونتانى (أن تبصر الموت هو تبصر للحرية). وماذا تحلم بالجديد بعد حصولك على جائزة الدولة التقديرية ألم تزل مصرا على الصمت والرفض والحزن؟ للأسف لم أزل أعيش على ذكريات الخمسينيات والستينيات وفى انتظار وحى إلهى لكتابة جديدة تمد فى عمرى أو تبهجنى فقد صار بينى وبين البهجة بلاد لا أعرف تفاصيل الطريق إليها لم تعد تسعدنى الحياة خاصة بعد رحيل زوجتى..، وليس هناك أدنى اهتمام من الدولة بالثقافة ولا المثقفين كل ما تبقى لى هى كتبى وأعمالى ومناجاة أولادى واللعب مع أحفادى. حتى اللعب معهم بات يذكرنى برفيقة عمرى التى مضت لحياة أخرى ولم تذهب... بل تركت بصمتها على روحى وحراكى بل على كل شيء أحببناه معا، فازة أو قطعة أثاث، السيدة أحلام كانت هى الفرش والغطاء والونس والحب كله هى من كانت تعيننى على كرب الحياة..وبعد رفقة فى الحياة والبيت والسفر استمرت لما يزيد على الأربعة عقود فقد صرت وحيدا ليس لى إلا الله والصبر والترحم عليها بل العيش بونسها فى واقع مؤلم فيما يخص الفقد وكذلك أولادى بما جنوا.