هذه رسالة مخطوطة لطه حسين أملاها سنة 1930، موجهة الى الكاتب الصحفى خليل ثابت، وظلت محفوظة فى ملفه الوظيفى فى الجامعة المصرية، لايتاح لأحد من خارج الجامعة الاطلاع عليها. فى هذه الرسالة يطرح طه حسين مفهومه للوحدة العربية التى كانت الشغل الشاغل للأجيال فى العصر الحديث، وعبر عنها مرارا فى كتبه ومقالاته وأحاديثه، وهى أنها وحدة ثقافية واقتصادية، وليست وحدة سياسية متقلبة، همها الاستيلاء على السلطة. .............................. ومضمون هذه الرسالة أن مصر بفطرتها المعتدلة تتمسك بأصولها الفرعونية تمسكها بأصولها العربية، وترى أن هذه الأصول التى تشمل أيضا مصر اليونانية والرومانية والقبطية والإسلامية تشكل مجتمعة مقوماتها التقليدية وعناصرها الثقافية الحديثة التى يتأثر فيها الجديد بالقديم، ولا تضحى فيه بأى منها تحت أى ظرف، كما لاتضحى بالمؤثرات الأجنبية التى أسهمت مع العلم الحديث فى هذا التشكيل دون أن تفنى فيه، أو تخضع له أو تقلده. كان طه حسين مع تواصل الثقافات والحضارات لأن من ليس له ماض فلن يكون له حاضر ومستقبل وبتعبير آخر لم يكن مع الانقطاع عن الماضى ومعه كل الحق، ولو أن هناك فى فلسفات العلوم من يؤمن بأنه لاتقدم إلا بالقطيعة المعرفية للفكر السابق، وطرح منظومة مختلفة تنسلخ بها عن كل إرث ونمط. وجاءت وسائل التواصل الإلكترونية بتقنياتها الرقمية لتحسم هذا الصراع لصالح التحديث وتكريس الاختلاف الكلى عن كل ماسبق. ويصل عدد المستخدمين لها، الذين يحققون هذا الاستقلال، الى الآن، مايقرب من نصف البشرية. لم يكن طه حسين فى هذا التاريخ، وهو يتهيأ لاعتلاء المجد، يظن انه يوجد بين المصريين من يقبل. مثلما لا يقبل، أن يضحى بهذه المقومات أو الأعراق. ومنها بالطبع الحضارة المصرية القديمة، على نحو من يقينه بعدم قبول أحد من المصريين هدم الآثار الفرعونية الخالدة. وتجدر الإشارة الى أن طه حسين كان على ثقة بأن المصريين يؤيدونه فى هذا الموقف، الذى يؤكد به أن مصر، بعيدا عن كل جدل عقيم، تتقدم كل الأقطار العربية فى إحياء تاريخها العربى، وفى ترقية لغتها وأدبها كفن واحد، وهذا من أسرارها الجمالية، وكحياة عقلية واحدة فى جذرها وظواهرها الاجتماعية بين شرق وغرب. أما الآثار الفرعونية التى انتفعت بها الى غير حد الحضارة اليونانية، ولم يمسها العرب بسوء عند فتح مصر، وهذا دليل على التحضر، فقد كان تأثر مصر بها، فى نظر طه حسين، محدودا بالقياس الى تأثرها بالثقافة العربية، وكان للمخطوطات وكشوف الأثريين والكتب فضل المحافظة على ذكرها منذ القرن التاسع عشر الذى ارتبط فيه العالم العربى بالعالم الأوروبى، وأخذ عنه مناهجه العلمية فى تلك الأيام. لم تكن مصر تدرك من التاريخ الفرعونى مايتجاوز إدراكها للحضارة الإنسانية بعامة، أو يتجاوز بحال تطلعها لأن تكون جزءا من العالم المعاصر، تجدد به وبالحكمة التى تملكها حياتها وتخصبها، وتخرج بها من الظلمة الى النور. كانت مصر فى حياتها الفكرية تدرك جيدا أن حاضرها امتداد لماضيها، ولن يتيسر لها هذا الإدراك الجيد لحاضرها إلا بما فى ماضيها من غنى. ويكفى أن نذكر هنا ماتحقق فى هذه الحضارة القديمة من توازن لامثيل له بين الدنيا والدين، أو بين السلطة السياسية والسلطة الدينية. وإذا كان من اللازم للشعوب والأمم أن تنتفع بتجارب الشعوب والأمم الأخرى، التى ترتبط بها وتتعامل معها، رغم اختلاف الظروف، فمن باب أولى أن يكون من اللازم أولا لهذه الشعوب والأمم أن تنتفع بميراثها الباقى من تجاربها التاريخية. والحضارة المصرية القديمة التى يولع بها العالم، وتشاهد فى كل متاحف الدنيا، من هذا الميراث المصرى الحافل بالقيم الفكرية والجمالية التى أنتجها الفرد والمجتمع الذى وضعت فيه. من أجل هذه الغاية لم تدع مصر اليونسكو وعلماء الغرب وحدهم يكتشفون هذه الحضارة من خلال الحفائر والتسجيل التى لايخفى ماتنطوى عليه من تعصب وتحيز، وإنما نهضت بسيادتها الوطنية بهذه الكشوف، وبحمايتها من الإهمال والأخطار، ونشر العلم والمعرفة الموضوعية بهذه الحضارة الإنسانية التى خاضت صراعا حادا للتحرر من الخضوع للهيمنة الأجنية قديما وحديثا. وكان طه حسين أحد هؤلاء الذين لهم الفضل فى تكريس الرؤية القومية للآثار، وحفز الأثريين المصريين لحملها، وتوجيههم نحو العناية بها. ومن يراجع الإبداع المصرى بعد هذه الاكتشافات سيجد أن العديد من الأعمال الفنية أخذت فى القرن العشرين مع ازدهار المدنية تنهل من هذا التاريخ فى الرواية والمسرحية والشعر، وتنهل من القضايا القومية والعالمية التى أثارتها برؤية عصرية عن مجد مصر الدنيوى، وعن الحياة والموت، والحرب والسلام، والخير والشر، والمادة والروح وغيرها. ويسر ملحق الجمعة، فى ذكرى ميلاد طه حسين (14 نوفمبر 1889) (28 أكتوبر 1973) أن ينشر هذه الوثيقة التى تعبر عن رأيه وموقفه من هذا التاريخ العريق الذى كان يتخذ مطعنا فيه، تسدد له السهام، ومع هذا لم يحد طه حسين عنه، بل ظل كعالم وفنان ومثقف عالمى ملتزما به، يضعه فى مكانه الصحيح، قبل وبعد كتابة هذه الرسالة التى يستنكر فيها من يظنون أنه يعرض عن العروبة ويعاديها، تمسكا بالفرعونية وحدها. على ان الاتهامات التى رمى بها طه حسين لم تقتصر فى حياته، ولكنها تواصلت إلى مابعد رحيله، بما زعمه سكرتيره من أنه هو الكاتب الحقيقى لكل أعمال طه حسين، وأنه لم يمل عليه منها صفحة واحدة. وخليل ثابت الذى توجه إليه هذه الرسالة كاتب لبنانى، درس فى الجامعة الأمريكية فى بيروت، وعاش فى مصر مساهما كغيره من اللبنانيين فى تطوير صحافتها، ورأس تحرير جريدة «المقطم» المصرية من 1913 الى 1945، ورحل فى 1964. وهذه رسالة طه حسين: صديقى العزيز خليل بك ثابت عندما كنت مسافرا إلى فرنسا أخيرا طلب إلى جماعة من الشباب السوريين والعراقيين الذى كانوا فى السفينة أن القاهم فقبلت ذلك مسرورا وقضيت معهم لحظات تحدثوا فيها إليَّ عن أشياء كثيرة منها الوحدة العربية فأعلنت إليهم متبسطأ انى من أنصار الوحدة العربية الثقافية والاقتصادية، فأما الوحدة العربية السياسية فلا أفهم ان تدخل فيها مصر إلا من طريق التحالف كما يجرى بين الأمم المستقلة المتحضرة. وقد ذكروا الفرعونية فأعلنت إليهم مؤكدا أن تاريخ مصر الخالدة وحدة لاتتجزأ وان عصر الفراعنة مقوم من مقوماتها الوطنية لايمكن إلغاؤه. وليس بين المصريين من يوافقون على هذا الإلغاء فلا يوجد مصرى يقبل أن تهدم الأهرام أو أبو الهول. ويظهر ان هؤلاء الشباب قد فهموا ذلك على غير وجهه أو أذاعوه على غير وجهه.وهم على كل حال لم يستأذنونى فى إذاعة ما أذاعوا. وأظنك توافقنى على أن من أيسر آداب الشباب المثقفين ألا يذيعوا عن الناس مايشاؤون بغير استئذانهم. فأما آرائى فى الوحدة وفى وحدة التاريخ المصرى فليست جديدة بالقياس إلى َّوما أعرف ان أحدا من المصريين المثقفين يخالفنى بها. وأنا أرجو ان تتفضل فتقبل أصدق تحياتى