لايخفي علي أحد, ان مصر, لم تكن لديها استراتيجية للسياسة الخارجية , طوال الثلاثين عاما السابقة بخلاف الحال في أي دولة يحكمها نظام مسئول عن حياة شعبه, وحماية أمنه في الداخل والخارج. وحين تعالت أصوات تطالب بالتغيير في أثناء ثورة25 يناير, فهي كانت تطالب أيضا بإحداث توجه جديد للسياسة الخارجية. وكان الانغماس في معوقات المرحلة الانتقالية, قد حول الانتباه عن السياسة الخارجية, بينما لا انفصال هنا بين الاثنين. إن تعويض ضياع السنوات الطويلة, وإقامة بنية جديدة للسياسة الخارجية, تتواءم مع عصر يختلف تماما عن سابقه واعداد سياسات وآليات التعامل معه في مواجهة تحديات تتعرض لها مصر, لم يعد مسألة تنفرد بها الدولة علي مستوي كوادرها الرسمية, وهو أمر تأخذ به دول العالم الصاعدة, وليس فقط القوي الكبري, فإن هذه الدول التي نهضت داخليا, واكتسبت نفوذا ومكانة دولية, بدأت طريقها بتشكيل تجمع من علماء, ومفكرين, وخبراء في الاستراتيجية, والسياسة, والثقافة, وغيرها, وعهدت إليهم بوضع مفهوم فلسفي لهوية الدولة, والمبادئ الأساسية لعلاقاتها الخارجية, واختارتهم بمعايير التنوع, والتعددية في الرؤية, وطرق التفكير. وليست هناك اليوم دولة تدير سياستها الخارجية, دون أن تؤسس لها أولا استراتيجية تتحرك بها نحو الأهداف المحددة لها. فالاستراتيجية هي حركة متعددة الابعاد والاتجاهات تتكامل خطاها مع بعضها البعض, وإن تشعبت مساراتها, وذلك بهدف تعظيم مكانة الدولة, وحماية مصالحها في الخارج, وكذلك دعم خطط النهوض بالمجتمع في الداخل. ولما كانت مسارات السياسات الخارجية للقوي الكبري, وكذلك للدول الإقليمية, تتخطي حددوها فإن مايحدث خارج هذه الحدود, هو حركة نشيطة لاستراتيجيات تتمدد كلما وجدت أمامها فراغا تركته علي حاله, دولة فاقدة للفكر الاستراتيجي, فتقتحم الفراغ الحيوي للدولة الأخري, وتشغل مساحات منه بأدوارها أما اذا وجدت في طريقة حركتها ان هذه الدولة تملك استراتيجية لسياستها الخارجية, فإنها ترتد وتتراجع, لأن من طبيعة هذه التحركات أنها نوع من تناطح الاستراتيجيات, حين تتلاقي خارج حدودها في مناطق تعتبر ان لها فيها مصالح حيوية. واذا كان الانشغال بالشأن الداخلي منذ25 يناير قد طال أمده, فإن من حق المصريين ان يتلهفوا علي رؤية استراتيجية للسياسة الخارجية تكون واضحة المعالم, وذات إطار فلسفي للعلاقات الخارجية, لدولة مابعد الثورة. إن مصر لديها أرصدة غنية, تثري قدراتها علي بناء استراتيجية وطنية, من أهمها موقعها الجغرافي لو أحسنت استثماره, الذي تكمله وتتكامل معه مصادر قوة أخري, تتمثل في التاريخ, والتقاليد والثقافة, واللغة. وكلها تشكل مع بعضها صياغة لفلسفة ومبادئ السياسة الخارجية, وهي تتضمن الجوانب التالية: إن أمن مصر بداية يرتبط ارتباطا وثيقا بالنيل منذ فجر التاريخ, ولذلك فإن روابطها مع السودان ودول حوض النيل تعد حلقة بالغة الأهمية في استراتيجيتها للسياسة الخارجية. موقع مصر الاستراتيجي كجسر بري يربط بين قارتين إفريقيا وآسيا, وهي حلقة وصل بين ممرين مائيين البحر المتوسط والمحيط الهندي, وهو مايدعو للتفاعل مع هذين المسارين شخصيتها العربية: وتبقي شخصيتها العربية السمة الأساسية لهويتها القومية, فروابطها مع الدول العربية بلا حصر, والشعور المشترك بوحدة المصير, وبنفس رد الفعل تجاه احداث الانتصار والانكسار, يسري في نفوس الجميع بنفس القدر, وفي نفس اللحظة, وتملك الدول العربية علي اختلافها, مقومات التكامل التي تجعل منها قوة كبري في العالم, لكنها مقومات لاتزال مبددة مهدرة للآن. قيمة مصر الإسلامية لها في نظر العالم الإسلامي مكانة كبري, ويبقي الأزهر رمزا لهذه المكانة. وهو رمز ينبغي الحرص عليه, وتعزيز دوره في الداخل وفي التوسع بالتواصل مع العالم الإسلامي. الشخصية القومية للمصريين تحمل سمات راسخة وممتدة منذ آلاف السنين, وهي عنصر كان ولايزال محركا للمصريين, سواء في مواجهة الظلم والاستبداد, أو في السعي للتقدم والاصلاح وهي عنصر أساسي في صياغة هوية الدولة وعلاقاتها الدولية. ..هناك دول تتقدم وتنهض باستخدام مصادر قوتها, وهناك دول تحقق التقدم بدراسة مصادر ضعفها, وكيفية تحويلها إلي طاقة للتقدم, ومثل هذه الدول توجد نماذج لها في آسيا. لكن هذا لايتم إلا ببلورة هدف واضح لما تريد الدولة ان تكون. ووضع خطط الوصول إلي هذا الهدف, ويرتبط ذلك بتحديد مبادئها للسياسة الخارجية, بشكل قاطع وصريح أمام شعبها, وأمام العالم الخارجي الذي تتعامل معه. رغم مبررات الانشغال بالداخل في عدم البدء مبكرا بوضع استراتيجية للسياسة الخارجية فإن ذلك لايعفي من مسئولية الوقوع في خطأ عدم التحرك, بينما هناك مخاطر كانت تظهر صريحة في سيناء, وكان لابد لمن لديه فكر استراتيجي, ولايدير أمور الدولة حسب قاعدة التصرف يوما بيوم, أن يتصدي لهذه الأخطاء باستراتيجية أمن قومي شاملة وواعية. كذلك الحال مع مشكلة مياه النيل, التي بدأت من قبل ثورة25 يناير, وكان ينبغي البدء من بعد الثورة مباشرة في صياغة رؤية متكاملة, للنفاذ الي عمق المشكلة, ليس التعامل معها باعتبارها مجرد مشكلة مياه النيل بل لكونها قضية حياة وأمن قومي وبرؤية سياسية شاملة, وهي وضع استراتيجية للتحرك الجماعي للدولة, بمشاركة من وزارة الخارجية والثقافة, والأوقاف, والصحة والزراعة, وبمشاركة من الكنيسة. وسأعطي مثلا لما يفعله آخرون, فمثلا عندما استقلت الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطي, عن الاتحاد السوفيتي عام1991, كانت إسرائيل تجهز لهذا اليوم من قبل مجيئه, وفق مايعرف عندها باستراتيجية إطار الدائرة التي كان بن جوريون قد وضعها في الخمسينيات. فعهدت إلي عشرات من خبرائها, بأن يضعوا خططا تفصيلية تكون جاهزة للتنفيذ فورا في مجالات الزراعة والعلاج الطبي, والتصنيع, والنقل, وغيرها, لتقديمها الي حكومات هذه الدول, وهو ماحدث فقبلت هذه الدول المشاريع الإسرائيلية وبدأت في تنفيذها في الحال بعد ان وجدت عدم رد علي مطالبها من الدول العربية التي بادرت أولا بالاتصال بها, لكنها لم تتلق منها ردا, لأن العالم العربي, لم يكن يتصرف وفق الفكر الاستراتيجي الذي غاب طويلا عن إدارته لأمور السياسة. المزيد من مقالات عاطف الغمري