بعد إعلان القسام عن أسر جنود.. الجيش الإسرائيلي يشن قصفا مدفعيا عنيفا على مخيم جباليا وشمال غزة    تقرير إسرائيلي: نتنياهو يرفض بحث توافق عملية رفح مع قرار العدل الدولية    أصعب 48 ساعة.. الأرصاد تحذر من طقس الساعات المقبلة    عمرو أديب يعلق على تصريحات الرئيس السيسي حول أزمة الكهرباء    شاهد، كيف احتفل كولر ورضا سليم مع أولاد السولية    رامز جلال يحتفل بتتويج الأهلي بطلًا لإفريقيا (صورة)    "هرب من الكاميرات".. ماذا فعل محمود الخطيب عقب تتويج الأهلي بدروي أبطال إفريقيا (بالصور)    موعد مباراة الأهلي والزمالك في السوبر الإفريقى والقنوات الناقلة    واجب وطني.. ميدو يطالب الأهلي بترك محمد الشناوي للزمالك    أسعار الذهب اليوم الأحد 26 مايو 2024 محليًا وعالميًا    اليوم.. الحكم فى طعن زوج مذيعة شهيرة على حبسه بمصرع جاره    وزير البترول: ندعم وزارة الكهرباء ب 120 مليار جنيه سنويا لتشغيل المحطات    المقاولون العرب يهنئ الأهلي على فوزه بدوري أبطال أفريقيا    زاهي حواس: إقامة الأفراح في الأهرامات "إهانة"    القائمة الكاملة لجوائز الدورة 77 من مهرجان كان    حظك اليوم برج السرطان 26/5/2024    رسميًا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري بالبنوك في أول يوم عمل بعد تثبيت الفائدة    عماد النحاس: سعيد بتتويج الأهلي بأبطال إفريقيا وكنت أتابع المباراة كمشجع    باريس سان جيرمان بطلا لكأس فرنسا على حساب ليون ويتوج بالثنائية    الرئيس التونسى يقيل وزير الداخلية ضمن تعديل وزارى محدود    مصرع 20 شخصا إثر حريق هائل اندلع فى منطقة ألعاب بالهند    أطول إجازة للموظفين.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات للقطاع العام والخاص    نيابة مركز الفيوم تصرح بدفن جثة الطفلة حبيبة قتلها أبيها انتقاماً من والدتها بالفيوم    «تشريعية النواب»: تعديل على قانون تعاطي المخدرات للموظفين بعدما فقدت أسر مصدر رزقها    طباخ ينهي حياة زوجته على سرير الزوجية لسبب صادم!    مصرع شخص وإصابة 9 آخرين في حادث سيارة ربع نقل بالمنيا    مشابهًا لكوكبنا.. كوكب Gliese 12 b قد يكون صالحا للحياة    قفزة بسعر السكر والأرز والسلع الأساسية بالأسواق اليوم الأحد 26 مايو 2024    طلاب ب "إعلام أكاديمية الشروق" يطلقون حملة ترويجية لتطبيق يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتسهيل الحياة في العاصمة الإدارية    وزير البترول: نتحمل فرق تكلفة 70 مليار جنيه لإمداد وزارة الكهرباء بالغاز فقط    حزب المصريين: الرئيس السيسي يتبع الشفافية التامة منذ توليه السلطة    حظك اليوم الأحد 26 مايو لمواليد برج الجدي    وزير الرياضة ل"قصواء": اعتذرنا عما حدث فى تنظيم نهائى الكونفدرالية    سلوى عثمان تنهار بالبكاء: «لحظة بشعة إنك تشوف أبوك وهو بيموت»    زيادة خطر الإصابة بهشاشة العظام بعد انقطاع الطمث.. وما يجب فعله للوقاية    العلاقة المشتركة بين سرطان الرئة وتعاطي التبغ    صحة كفر الشيخ تواصل فعاليات القافلة الطبية المجانية بقرية العلامية    أول رد من نتنياهو على فيديو الجندي الإسرائيلي المُتمرد (فيديو)    تجدد الاحتجاجات ضد نتنياهو في تل أبيب وأماكن أخرى.. وأهالي الأسرى يطالبونه بصفقة مع حماس    61 ألف جنيه شهريًا.. فرص عمل ل5 آلاف عامل بإحدى الدول الأوروبية (قدم الآن)    اليوم.. افتتاح دورة تدريبية لأعضاء لجان الفتوى بالأقصر وقنا وأسوان    وزير البترول: محطات توليد الكهرباء تستهلك 60% من غاز مصر    صوّر ضحاياه عرايا.. أسرار "غرفة الموت" في شقة سفاح التجمع    "يا هنانا يا سعدنا إمام عاشور عندنا".. جماهير الأهلي فى كفر الشيخ تحتفل ببطولة أفريقيا (صور)    آلام التهاب بطانة الرحم.. هل تتداخل مع ألام الدورة الشهرية؟    بوركينا فاسو تمدد فترة المجلس العسكري الانتقالي خمس سنوات    رئيس جامعة طنطا يشارك في اجتماع المجلس الأعلى للجامعات    الأزهر للفتوى يوضح العبادات التي يستحب الإكثار منها في الأشهر الحرم    الأزهر للفتوى يوضح حُكم الأضحية وحِكمة تشريعها    «الري»: إفريقيا تعاني من مخاطر المناخ وضعف البنية التحتية في قطاع المياه    نتيجة الصف الرابع الابتدائي 2024 .. (الآن) على بوابة التعليم الأساسي    موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات.. ومواعيد الإجازات الرسمية المتبقية للعام 2024    المدن الجامعية بجامعة أسيوط تقدم الدعم النفسي للطلاب خلال الامتحانات    القوات المسلحة تنظم المؤتمر الدولي العلمي للمقالات العلمية    توقيع برتوكول تعاون مشترك بين جامعتي طنطا ومدينة السادات    وزير الأوقاف: تكثيف الأنشطة الدعوية والتعامل بحسم مع مخالفة تعليمات خطبة الجمعة    علاج 1854 مواطنًا بالمجان ضمن قافلة طبية بالشرقية    متصلة: أنا متزوجة وعملت ذنب كبير.. رد مفاجئ من أمين الفتوى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية
فكر طه حسين
نشر في الأهرام اليومي يوم 16 - 11 - 2018

تنطوى الممارسات العملية لكل ناقد أدبى عظيم أو مؤرخ استثنائى للآداب أو الحضارة، أو كل مُبدع عظيم، أو حتى ناشط اجتماعى أو سياسى استثنائى، على مجموعة من المبادئ المجردة التى يمكن استخلاصها من مجمل كتاباته ومواقفه الحياتية وممارساته العامة والخاصة. ولا يخرج طه حسين عن هذه القاعدة، فقد كان مؤرخًا للأدب وناقدًا له، كما كان ناشطًا سياسيًّا واجتماعيًّا،
...................................................................
وكان مثقفًا موسوعيًّا وتنويريًّا ككل قادة الإصلاح والنهضة، يسهم مع أقرانه فى المجالات التى أشرتُ إليها- فى عملية الانتقال بمجتمعه من وهاد التخلف إلى ذُرى التقدم، ومن واقع الضرورة إلى آفاق الحرية، ومن كابوس التقليد للماضى الجامد إلى الحلم بالمستقبل الواعد الذى يظل دائمًا فى حالة صنع وتخطيط للزمن الآتى بالوعد، فى مدى إمكان التحقق الذى لا نهاية له أو حد. هذه المبادئ المجردة هى رؤية عالم أو مبادئ فكر هذا الرائد العظيم أو ذاك من الرواد الذين تحمَّلوا عنّا عناء بداية مرحلة النهضة وأوائل تحقيق أحلام التقدم التى لولاها ما كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تقدم، ولولا نكوصنا عن مبادئهم الخلاقة، ما كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه من وهاد الضرورة. وأختزلُ مبادئ فكر طه حسين فى خمسة مبادئ أساسية، هى:
1 الحرية أولًا
تعلّمنا من طه حسين- فكرًا ونقدًا وتأريخًا ودرسًا أدبيًّا وسيرة حياة - أن الحرية هى أصل الوجود والطاقة الخلاقة التى ينطوى عليها الإنسان، كى يتأبَّى بها على شروط الضرورة، ويقهر بها العدم، مؤكِدًا حضوره الفاعل فى الوجود، مقاوِمًا كل ما يحول بينه وتمام الحضور فى هذا الكون، من حيث هو كائن فاعل قادر على صنع ما يريد، وما يكمل به معنى حضوره الخلاق الذى يواجه به التاريخ ويصنعه فى آن. ولم تكن هذه الدلالة الفلسفية للحرية مكتملة فى ذهن طه حسين منذ البداية، لكنه كان يشعر على نحو لا يخلو من الغموض بأن عليه مقاومة شروط الضرورة، ابتداء من الفقر وانتهاء بآفة العمى التى جرّها عليه الجهل الذى هيمن على البيئة التى عاش فيها وليدًا يرى، وصبيًا أفضى به العلاج الجهول إلى العمى فى عزبة الكيلو بمدينة مغاغة فى محافظة المنيا، حيث وُلِد فى الخامس عشر من نوفمبر سنة 1889، منذ ما يزيد على قرن وربع بأربع سنوات إلى أن توفاه الله فى الثامن والعشرين من أكتوبر سنة 1973، منذ حوالى خمسة وأربعين عامًا.
وكان على هذا الفتى الأعمى أن يقاوم الجهل أولًا بحفظ القرآن فى القرية التى غادرها ليكون برفقة أخيه، مجاورًا فى الأزهر، ليتعلم علوم الدين التى هى أليق بمن هو مثله من الذين يعيشون مستعينين بغيرهم. وبدأت بذرة الحرية تتوقد داخل الفتى الأزهرى الذى كان يجد عُسرًا فى تقبُّل ما لا يقتنع به. وكان من حُسن حظه أن الأزهر الذى دخله فى مطالع القرن العشرين كان به بعض أصداء النزعة العقلانية التى أشاعها الإمام محمد عبده (1849 1905) وكانت هذه النزعة لا تزال قادرة على مخايلة عقول أزهرية شابة نزّاعة إلى الحرية والتمرد الذى سرعان ما انتقلت عدواه إلى الأزهرى الصغير طه حسين. ومن يومها تعلم الفتى (الذى كتب سيرته فى «الأيام») أن الأسئلة مفاتيح العلم، وأن العقل لا بد أن يقوم بتمحيص كل ما يَرِد عليه، وأن علامة هذه الحرية أن يضع كل ما يُطرح عليه موضع المساءلة. والعقل النقدى هو تسمية أخرى للعقل الحر، كما أن العقلانية - كما سنوضح بعد قليل- هى النزعة الملازمة للحرية، تتبادل معها الوضع والمكانة كما تتبادل معها التأثر والتأثير. وقد انبثقت النواة الأولى لهذه الحرية التى عرفها الفتى الأزهرى من أصداء ما تركه الإمام محمد عبده فى الأزهر، وكان مصطفى عبد الرازق الذى يكبر طه حسين بأربع سنوات تقريبًا (1885 1947) هو الذى نقل تأثير محمد عبده إلى الفتى القادم من مغاغة ومعه أخوه على عبد الرازق (1888 1966) الذى كان يكبر طه حسين بسنة واحدة. وبقدر ما كان هذان الاثنان سبيل طه حسين إلى الانخراط فى تيار الشباب الأزهرى الذى تعلم حرية الفكر من الإمام محمد عبده، كان آل عبد الرازق، هم رعاة طه حسين الذين ظلوا أقرب إليه، وأكثر حنوًّا عليه، ورعاية له إلى أن أصبح على ما كان عليه شهرة ومكانة.
وكان لا بد أن تقترن بذرة الحرية بالرفض داخل الفتى الأزهرى الذى بدأ فى التمرد على كل من كان لا يقدر على إقناعه من أساتذته المشايخ. ولذلك ضاق عليه وبه الأزهر، فخرج منه وعليه، باحثًا عن مجال أوسع لممارسة حرية الفكر خارج أسواره إلى الحياة الثقافية الأكثر رحابة، حيث مؤسسات الرأى والفكر المدنى. وبدأ يتعرف على أحمد لطفى السيد (1872 1963) رئيس تحرير «الجريدة»، الذى استحق لقب «أبو الليبرالية المصرية» صاحب مذهب «الحريين» الذى اختاره علامة على الفكر الليبرالى الذى تبنّاه ودعا إليه. وفى رحاب أحمد لطفى السيد، وجد الفتى القادم من مغاغة ما قارب بينه ومذهب الحريين، فصار واحدًا منهم، ينتسب إلى الفكر الليبرالى انتساب العارف الفاهم، ويتصل بكباره الذين عرّفه عليهم أحمد لطفى السيد ليكون واحدًا من شباب الليبراليين الذين التقوا فى مجلة «الجريدة» التى نشروا فيها مقالاتهم الباكرة. وبقدر ما تتسع دوائر معارف الفتى القادم من مغاغة بدوائر الأفندية الذين أخذ يشاركهم اعتناق «مذهب الحريين»، وتتوثق علاقاته بأنشطتهم الثقافية المدنية، التى وجد فيها مراحه العقلى، أخذ يضيق به الفكر الجامد لمشايخه بالأزهر، وذلك بالقدر الذى أخذ فكره الليبرالى الغض يضيق بهم، خصوصًا بعد أن عرف طريقه إلى الجامعة التى افتُتحت فى ديسمبر 1908، وأصبحت منبعًا جديدًا للفكر المدنى الحر الذى وصل طه حسين بالأفندية فكرًا قبل أن يكون واحدًا منهم بالملبس. وبدأ غضب المشايخ من أساتذته يتزايد عليه. ورغم وساطات أحمد لطفى السيد، فإن الهوة اتسعت، والمسافة بين العقليات تباعدت. وكان لا بد أن يحدث الصدام، وأن يتفق كبار المشايخ على حرمان الفتى المتمرد من شهادة العالمية التى أسقطوه فى امتحانها، كى يجعلوا منه عبرة لغيره من الذين يمكن أن يسيروا على دربه، أو يتمردوا تمرده.
وكان على الفتى القادم من مغاغة أن يستبدل بمشايخ أعمدة المسجد الأزهرى أفندية مدرجات الجامعة الوليدة، وأن يسمع من أساتذتها الذين رسخت مكانتهم فى المعارف الحديثة، ومن المستشرقين الذين علَّموه الأدب العربى، بطريقة لم يكن له بها عهد، مثلما فعل كارلو نالينو، أستاذه فى الأدب العربى، وديفيد سانتلانا، الذى أسمعه ما كان جديدًا عليه فى الفلسفة الإسلامية بوجه عام والفقه الإسلامى بوجه خاص، فوجد العقل الحر للفتى القادم من مغاغة مراحه الذى ساعده على الانطلاق والتحرر من قيود أزهريته وظهر استعداده للتفوق والنبوغ، ففرغ من علوم الدرجة الجامعية الأولى، ودخل مرحلة الدكتوراه التى أنجز فيها أطروحته عن أبى العلاء المعرِّى الشاعر الفيلسوف الذى يعد ظاهرة استثنائية فى تاريخ الأدب العربى، سواء بفكره الذى لم تقيده القيود، أو بمعرفته اللغوية التى لا تحدها حدود.
وكان واضحًا أن عوامل عديدة قد قاربت ما بين الشاعر الذى عاش ما بين القرنين العاشر والحادى عشر الميلاديين، والفتى الأعمى الذى أنهى أطروحته عن أبى العلاء المعرى سنة 1914 الميلادية. وما لبثت هذه الأطروحة التى كانت أولى درجات الدكتوراه التى منحتها جامعة عربية أن أثارت عليها بعض أعضاء الجمعية التشريعية ممن اتهمها بالخروج على الشريعة الإسلامية. ولولا تدخل سعد زغلول للدفاع عن حرية الفكر فى الجامعة المصرية لكان حدث للأطروحة وصاحبها ما حدث له مع درجة العالمية فى الأزهر. ولكن مر الأمر بسلام نتيجة دفاع سعد زغلول، وكيل الجمعية، ليبرالى الهوى والأفكار.
وقررت الجامعة مكافأة طه حسين بإرساله إلى بعثة فى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه الكبرى. وذهب الفتى الأزهرى الذى كان قد تعلّم من الفرنسية ما يعينه على تدبير أموره فى فرنسا. وعلى متن الباخرة التى أقلته إلى جامعة مونبلييه، خلع زيّه الأزهرى واستبدل لبس الأفندية بلبس المشايخ. وعاش طه حسين فى رحاب جامعة مونبلييه أشهُرًا، يستمع إلى محاضرات أساتذتها، فيرى عالمًا غير العالم، ومناهج غير المناهج، وطرق تفكير مناقضة لما خلَّفه وراءه، سواء فى الجامعة أو الأزهر.. فالحرية التى كان يقدِّسها الجميع فى مونبلييه، فكرًا وعملًا علميًّا أو سياسيًّا أو اجتماعيًّا أصبحت واقعًا يُعايش، وتقاليد جديدة تفرض نفسها على الفكر وتتأصل فيه. ولكن اشتعال الحرب العالمية الأولى أعاده إلى القاهرة بأوامر من الجامعة التى كانت تعانى من أزمة مالية. ولكن ما كسبه طه حسين من بعض الخبرة فى مونبلييه، خصوصًا بعد أن استمع إلى ما استطاع إليه سبيلًا من محاضرات الأدب، جعل له رأيًّا فى تدريس الأدب العربى فى الجامعة المصرية. وهو الأمر الذى دفعه إلى كتابة مقالات قاسية عن تخلّف تدريس الأدب العربى فى الجامعة، وضرورة تطوير طريقة الدرس الأزهرية المتخلّفة التى كانت تسيطر على نهج أستاذه القديم الشيخ محمد المهدى، فغضب الرجل ورأى فيما كتبه طه حسين إهانة له وتطاولًا عليه. وقدَّم فيه شكوى كادت تطيح بالبعثة التى كان عليه أن يُكملها، لكن أنقذه بعض أحرار الفكر الذين كانوا على علاقة طيبة بالسلطان حسين كامل الذى أمر بعودته إلى البعثة، فعاد طه حسين إلى جامعة باريس هذه المرة، كى يحصل على درجة الدكتوراه من السربون. وهناك درس الاتجاهات العلمية فى علم الاجتماع والتاريخ اليونانى والرومانى والتاريخ الحديث والفلسفة. وفرغ من إعداد أطروحة الدكتوراه الثانية عن «الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون». وكان ذلك فى سنة 1918، إضافة إلى إنجازه دبلوم الدراسات العليا فى القانون الرومانى والنجاح فيه بدرجة الامتياز. وفى تلك الفترة تعرَّف على سوزان بريسو الفرنسية السويسرية التى ساعدته على الاطلاع أكثر فأكثر بالفرنسية واللاتينية؛ فتمكّن من الثقافة الفرنسية التى أصبح كأنه أحد أبنائها، وأحد الذين يتفاعلون مع متغيرات مَشاهدها فى مرحلة ما قبل الحرب وما بعدها.
وكان من الطبيعى أن يعاصر أفكار فرديناند برونتيير (1849 1906) الناقد، وأميل فايه (1847 1916) الأستاذ بالسربون، والناقد يل لوميتر الذى قرأ نقده وكُتبه، وأن يعرف كُتّاب ما بعد الحرب الذين كان أشهرهم مارسيل بروست (1871 1922) وأندريه جيد المولود ( 1869 1951) فضلًا عن الشاعر بول فاليرى المولود (1871 1945) أبرز كتّاب فرنسا فى ذلك الوقت. ولم يكن من الغريب أن يعرف طه حسين إبداع كل منهم، مضافًا إليه إبداع السابقين واللاحقين، فقد تعلّم من جوستاف لانسون (1857 1934) الناقد الذى عاصره وتعلّم على يديه أن الحرية فى التعبير عن الجمال أصبحت كسبًا محقَّقًا، وأن لكل مبدع أن يأخذ لنفسه من كتاب الشعر ل (بوالو) ما يريد، ويحققه حسبما يريد.. «أما الجمهور فإنه، إذا كان لا يرضى بكل شىء، فهو لا يرفض كل شيء من حيث المبدأ. وإذا كانت هذه الحرية هى الفوضى فذلك شىء ممكن، لكن الفوضى هنا لا تنطوى على خطورة ما، فالفوضى فى الأدب لا تدل على شىء سوى أن المواهب تزدهر بحرية، وأن كل أديب يخلق العمل الفنى الذى يحلو له؛ ويضع فيه ما يريد». ولا يتوقف جوستاف لانسون عند هذا الحد، بل يمضى مضيفًا بكلمات لا شك فى أنها تغلغلت فى عقل طه حسين واستقرت فى قرارة القرار من وعيه، خصوصًا حين يختم لانسون كتابه «تاريخ الأدب الفرنسى» الذى ترجمه محمود قاسم وسهير القلماوى، وكلاهما من تلامذة طه حسين الذى أكاد أتخيله شابًا يافعًا، يستمع إلى ما تقرأه عليه سوزان بريسّو من الكلمات التى يختم بها لانسون كتابه الضخم قائلًا:
«ليست التقاليد قانونًا يجب مراعاته، إذ ليست ثابتة، وسوف تكون ثابتة عندما تصبح الحضارة الفرنسية شيئًا تاريخيًّا، أى حضارة ميتة. عندئذ يمكن وضع قائمة بالعناصر التى تنطوى عليها، والعناصر التى تستبعدها، لكن طالما بقيت الروح الفرنسية قوية حية، فسوف تنتقل التقاليد من جيل إلى جيل. وهى لا تنفك تتسع، وتتعقد، وتتضخم بالعناصر الجديدة التى ربما أثارت فزع المتمسكين بالآراء المعتدلة البالية، لكن دون أن يستطيع أحد مطلقًا أن يقول للشُّبان: «هذا هو كل شىء، لقد تمت التقاليد الفرنسية، فلن تضيفوا إليها شيئًا بعد اليوم»، أو يقف فى سبيل مُجدِّد لم يُصدر الزمن حكمه فى تجديده بعد، لكى يعارضه قائلًا: «ليس هذا الإنتاج فرنسًّيا، ولن يكون فرنسيًّا أبدًا». وكما أن فرنسا أعظم من جميع وجهات النظر الحزبية، فإن العبقرية الفرنسية أكثر اتساعًا من كل المذاهب الجمالية. ويحق لنا أن نعتقد، بل يجب علينا أن نأمل فى أنه ستوجد فى فرنسا فى أثناء القرن العشرين وفى القرون التالية، روائع من الأدب التى لا نعلم عنها شيئًا، والتى سوف تزعزع جميع آرائنا. ومع ذلك، فإنها ستكون روائع من الأدب التى يتعرَّف فيها أحفادنا، دون جهد، على ملامح فرنسا الخالدة. ولنكن واثقين من ذلك».
وأكاد أرى بعين خيالى طه حسين وهو يستمع إلى هذه الكلمات التى نزلت بردًا وسلامًا عليه، فازداد وعيًا بما انطوى عليه من أفكار وبما سبق أن قاده إلى المشاكل فى مصر. وهاهو طه حسين فيما أتخيله - بعيدٌ عن ذلك كله، يتنسّم هواء الحرية فى باريس، ويستمع إلى كلمات لانسون عن الحرية التى أصبح يراها ضرورية كالحياة للإبداع حتى ولو انقلبت إلى فوضى، فالفوضى فى الأدب لا تدل على شىء إلا على أن المواهب تزدهر، وتزداد تنوَّعًا، كلما وُجِدت فى مناخ أكثر حرية.
ومن المؤكد أن كلمات لانسون كانت هى الأصل الذى اعتمد عليه طه حسين، عندما أكد أن منح الحرية للأدباء لن يؤدى إلا إلى ما هو خير للأدب بعامة والمجتمع بخاصة، وأن قمع هذه الحرية لا يمكن إلا أن يضر الجميع، فضرر قمع الحرية لا يقتصر على الأدب وحده، وإنما يمتد ليشمل الحياة كلها، ولذلك ظل يؤكد فى «مستقبل الثقافة»: «الأدباء عندنا ليسوا أحرارًا، لا بالقياس إلى الدولة ولا بالقياس إلى القراء، وما أكبر النبوغ الذى يضيع ويذهب هدرًا لأن الأديب يكظم نفسه، ويُكرهها على الاعراض عن الإنتاج خوفًا من الدولة أو خوفًا من القراء فليس كل موضوع يعرض للأديب عندنا تسيغه القوانين، ويحتمله النظام، ويرضى عنه ذوق الجمهور». وهذه كلمات تؤكد العقبات والأحلام على السواء، خصوصًا عندما تلفت انتباهنا إلى ألوان القمع الواقعة على حرية الإبداع من الجمهور ورجال الدين وإدارة الأمن العام والنيابة. وهى كلمات تؤكد طليعية وعى كاتبها الذى ظل يطالب بضرورة تحرير الأدب والأدباء من داخلهم وخارجهم، وضرورة أن يتاح لهم القول فى كل ما يشعرون به ويجدون الحاجة إلى القول فيه، مؤكدًا أهمية أن تكون قوانيننا سمحة، وأن يكون تطبيقها سمحًا، وأن يكون ذوق الجمهور عندنا سمحًا. ويمضى طه حسين مؤكدًا أن لحرية الرأى شرّها أحيانًا، ولكن لها خيرها دائمًا، ونفع الحرية الفكرية والإبداعية أكثر من ضررها على كل حال. ولذلك يجزم بأن كثيرًا من الآثام الفردية والاجتماعية سيزول، وتخف أضراره، إذا أتيح للأدباء أن يتناقلوها بالنقد والتحليل وبالعرض والتصوير. ولا يشك فى أن قوانينا حين تشتد - فى مصادرة ما تصادر من حرية الأدب أو الفكر«لا تحمل فضيلة وإنما تحمل رذيلة وتخلِّى بينها وبين النفوس».
ولم يكن طه حسين من الذين يجلسون فى دِعة مؤثرين السلامة، منتظرين أن تغير الحكومات من قوانينها المقيدة للحريات، أو يفارق الجمهور تعصبه، الذى اعتاد عليه، أو الذى علَّمته إياه الجماعات الدينية المتشددة، إنما كان يدرك أن الحرية تُنتزع انتزاعًا لأنها ليست هبة من سُلطة أو جماعة، وإنما هى حق لا يمكن اكتسابه إلا بممارسته وتأكيده بالعمل الجَسور والمبادرة الخلاقة والمبادئ الشجاعة. وقد فعل هو ذلك كما فعل غيره من رواد الفكر والإبداع الذين لم يكفّوا عن انتزاع هذه الحرية من أنياب الاستبداد والتعصب والقمع. ولا يزال دافعهم إلى ذلك أن الحرية التى يطلبونها، ويطلبها معهم طه حسين، لن تُنال لأننا نتمنّاها، وإنما تُنال يوم يأخذها من يسعى إليها بنفسه لا ينتظر أن تمنحه إياها سُلطة ما، فقد أراد الله أن تكون هذه الحرية حقًّا للثقافة والمثقفين، ما ظلوا يحلمون بوطن متحضِّر يتمتع بالحرية فى ظل الدستور والقانون.
2 العقلانية الوجه الآخر للحرية:
ولكن لم يقتصر مفهوم الحرية على علاقتها بالتقاليد الأدبية فحسب، فقد كانت حرية الأديب هى أحد وجوه حرية الكائن الإنسانى، سواء من المنظور السياسى الليبرالى الذى يجعل من الفرد مركز الوجود، والعنصر الفاعل فى التاريخ الذى يصنعه الكائن المتميز على عينه. ولكن من المنظور الفلسفى الذى يؤكد حضور الفرد الحر، ابتداء من «الكوجيتو» الديكارتى نسبة إلى الفيلسوف ديكارت (1596 1650) الذى يردُّ وعى الوجود على وعى الفرد الحر الذى يعرف أنه موجود لأنه يفكر. أعنى الوجود الحر الذى اقترنت فرديته بقدرة الكائن الإنسانى على مساءلة كل الأشياء بما فيها الأفكار والمسلَّمات والمبادئ الراسخة، والشك حتى فى وجودها، بعيدًا عن أى وازع أو رادع إلا قواعد المنهج العلمى الذى يحكمه العقل والعقلانية سواء على أساس قراءة طه حسين لديكارت الذى علَّمه أن الأمر لا يتوقف على مبدأ الشك الذى جعله قرين المعرفة الصحيحة فحسب، بل جاوز ذلك إلى أقوال لديكارت، صارت من قبيل المبادئ الراسخة فى وعيه، يلمح أصداءها كل من يقرأ كتاباته بعد عودته من فرنسا. أعنى أقوالًا تبدأ بالمبدأ: «أنا أفكر إذن أنا موجود». وتضم غيره مثل: «الشك هو أصل الحكم، لا شىء يأتى من لا شىء، ولا شىء يأتى من العدم، ولا يكفى أن يكون لك عقل جيد، المهم هو أن تستخدمه بشكل حسن. أعظم العقول قادرة على أكبر قدر من الرذائل، وكذلك أكبر قدر من الفضائل. كلما أساء إليّ أحد حاولتُ أن أرفع روحى إلى الأعلى لكى لا تصلها الإساءة».
ولم تكن تلك الأفكار الديكارتية، التى عرفها طه حسين فى فرنسا بعيدة عن التراث الاعتزالى الذى عرفه طه حسين من كتب الجاحظ الذى كان له مكانة خاصة فى وعيه بتراثه، فقد كان الجاحظ يؤمن بالشك سبيلًا إلى اليقين على طريقة أستاذه إبراهيم بن سيار النظام، الذى كان يقول: «لم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولم يكن ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال شك».
ومع أن مناخ الحرية فى تعدد مجالاتها الذى عاشه طه حسين فى فرنسا قد رفع روحه عاليًا، وانقلب بحياته من حال إلى حال، كما لو كان قد أخرجه من ظلمة الجهل إلى كل أنوار المعرفة. لكن كان عليه، فيما يبدو، وبعد أن عاد إلى القاهرة أن يضع حكمة ديكارت الأخيرة نُصب وعيه، خصوصًا أنه لم يتوقف عن ممارسة فعل حرية التفكير فى مجال الدرس الأدبى والتاريخى، وهو الأمر الذى جلب عليه من الهجوم ما كان يستدعى معاودة تذكر كلمات ديكارت الحكيمة: «كلما أساء إليّ أحد حاولتُ أن أرفع روحى إلى الأعلى لكى لا تصلها الإساءة». وما أكثر المعارك التى خاضها فكر طه حسين الحر بعقلانيته الجذرية. وما أكثر الإساءات التى انهالت عليه من خصوم هذا الفكر الحر، الذين كان ينتصر عليهم فى النهاية؛ لأنه كان يرى أبعد ما يرون مع أنه الأعمى، وهم المبصرون. وليس فى الأمر استحالة وإنما سخرية، فنور البصيرة أعظم وأبعد مدى من نور الباصرة.
هكذا تعلَّم طه حسين فى باريس، ومن فلسفة ديكارت على وجه التحديد، أن الأصل فى وعى الوجود هو وعى الفرد الذى يدرك وجوده باستخدام عقله بوصفه الأصل فى عقلنة الوعى بالحضور فى الوجود وفى التاريخ وبالتاريخ فى الوقت نفسه. هكذا فتح مبدأ «الكوجيتو» الديكارتى نوع العقلانية التى التزم بها طه حسين التزامه بالحرية. وهو الأمر الذى جعله يدرك، على نحو غير مباشر، أنه لا يمكن أن يكون دارسًا كبيرًا للأدب أو النقد أو حتى أديبًا إلا إذا كان قارئًا أصيلًا فى الفلسفة عارفًا معرفة وثيقة بالفلسفة العقلانية، التى تقود الإنسان إلى معرفة الحقيقة بعيدًا عن العَنعَنات التى قد لا تعنى شيئًا مؤكدًا فى نهاية الأمر.
هكذا عاد طه حسين من فرنسا، وبدأ يستقر بعون من أصدقائه من آل عبد الرازق، وتولى تدريس التاريخ وحضر محاضرته الأولى عبد الخالق ثروت باشا فى قسم التاريخ، وكانت المحاضرة نفسها حدثًا تحدثت عنه الحياة الثقافية، لكن مع سنة 1925 تحوَّلت الجامعة المصرية من جامعة أهلية إلى جامعة حكومية، بعد أن تولى رئيس مجلس إدارتها الأمير أحمد فؤاد، الحُكم وتحوَّل اسمه من الأمير أحمد فؤاد إلى السلطان أحمد فؤاد وأخيرًا إلى المَلك فؤاد الذى أمر بأن تكون الجامعة الأهلية جامعة حكومية.
وكان طه حسين قد أخذ يكتب فى جريدة «السياسة الأسبوعية» التى تولَّى رئاسة تحريرها صديقه محمد حسين هيكل، الذى جعل منه مشرفًا على صفحات الأدب فى الجريدة التى كانت الصوت الناطق لحزب الأحرار الدستوريين الذى انضم حماة طه حسين القدامى إليه. وأخذ طه حسين يسهم فى هذه الجريدة بمقالات فى الأدب والنقد بدأها بتطبيق المنهج العقلى الذى تعلَّمه فى فرنسا. وكانت هذه العقلانية تعنى الاحتكام إلى العقل، والاعتماد على الاستنتاج المنطقى مصدرًا للمعرفة والتفسير. وهذا النوع من الاستنتاج يعنى وضع الأفكار والمبادئ والأقوال موضع المُساءلة، بعيدًا عن كل ما يمكن أن ينحرف بِخُطى الاستنتاج المنطقى، سواء من أهواء دينية أو اجتماعية أو سياسية، فما قَبِله العقل فى فعل المساءلة، دون حاجة إلى تأويل فهو صحيح، وإن لم يكن كذلك فمن الصعب أن يقبله العقل أو يرضى به.. وكانت العقلانية بهذا المعنى يتوافق فيها الحديث الديكارتى مع القديم الاعتزالى الذى كان يبشِّر به الإمام محمد عبده فى الأزهر وحمله عنه تلامذته الذين انحاز إليهم طه حسين الأزهرى ضد مشايخه الذين كانوا على خلاف مع اعتزالية محمد عبده. ولذلك لم يجد طه حسين تناقضًا بين ما فهمه من آراء ديكارت الفلسفية ومن أفكار الإمام محمد عبده، فمزجهما معًا فى منهجه الذى أخذ يضع به كل المسلَّمات القديمة فى تاريخ الأدب موضع الشك أو المساءلة. وكانت النتيجة مقالاته فى جريدة «السياسة الأسبوعية» التى بدأها بالشك فى صورة العصر العباسى الذى جعل منه المؤرخون، فى ذلك الوقت، عصرًا من المجون واللهو والعبث وصل إلى ذروته فى أيام هارون الرشيد، مع أن المؤرخين القدامى كانوا يصفون هارون الرشيد نفسه بأنه كان يذهب إلى الحج فى عام ثم يذهب إلى الغزو فى عام ثانٍ، وذلك على نحو لا يمكن أن يقبله العقل الذى لن يصدق كل ما كتبوه عن مجون الرشيد وجواريه أو وقائع مجالسه التى تصفها «ألف ليلة وليلة».
ورفض طه حسين هذه الصورة الشائعة عن العصر العباسى، مؤكدًا أنها صورة زائفة. ودخل فى ذلك أولى معاركه فى التاريخ الأدبى، وانتقل من ذلك إلى الشك فى شعر الغَزليِّين فى العصر الأموى، فأخذ يشك فى وجود أمثال مجنون ليلى أو قيس بن الملوح، حتى فى حقيقة الغزل العُذرى أو أسماء الحبيبات التى اقترنت بهن أسماء شعراء الغزل العُذرى العفيف فى مستهل الدولة الأموية. ثم صعد طه حسين إلى ذروة منهج الشك عندما أصدر فى مارس 1926 كتابه القنبلة «فى الشعر الجاهلى»، مؤكدًا أنه لا يقبل إلا ما يهديه إليه عقله بعد تمحيص الأقاويل عن طريق الاستنتاج المنطقى والوصول إلى نتيجة يقبلها العقل مطمئنًا إلى صوابها. فانتهى إلى أن أغلب ما فى الشعر الجاهلى إنما هو شعر مُنتحل ولا سبيل إلى التصديق به أو التسليم بوجوده على هذا النحو قبل مجيء الإسلام. فهو شعر منتحل وضعه الرواة لأسباب متعددة فصَّلها طه حسين فى هذا الكتاب، الذى أقام الدنيا ولم يُقعدها.
وكان أول الغاضبين على هذا الكتاب بالطبع هم المشايخ التقليديون من علماء الأزهر، وعلى رأسهم شيخ الأزهر نفسه. وقد ساعد مشايخ الأزهر فى الهجوم على كتاب طه حسين، آملين فى تكرار انتصارهم منذ أشهر فى طرد الشيخ على عبد الرازق، صديق طه حسين، عندما سحبوا منه درجة العالمية وحرَّموا عليه أى وظيفة فى الدولة عقابًا له على كتابه «الإسلام وأصول الحُكم». ويبدو أنهم تخيَّلوا إمكان تكرار الانتصار نفسه على الآبق طه حسين، صديق على عبد الرازق بكتابه «فى الشعر الجاهلى»، ولكنهم نسوا أن الظرف التاريخى قد تغيَّر فعندما صدر كتاب على عبد الرازق كان على رأس الحكومة «زيور باشا» الرجل المقرَّب من السلطان فؤاد بكل ما عُرف عنه من استبداد ورفض الديمقراطية. أما عندما صدر كتاب «فى الشعر الجاهلى» بعد ذلك بأشهر معدودة، فكانت حكومة زيور قد استقالت وجاءت بعدها حكومة ائتلافية جمعت بين حزب الأحرار الدستوريين الذى ينادى بالحرية الليبرالية والوفد الذى يمثل أغلبية الأمة، ولا ينكر إيمانه بالدولة المدنية القائمة على الفصل بين السُّلطات، والاعتماد على الدستور والقانون الذى يحمى حقوق المواطنين، ولا يمايز بينهم.
وتحايل الأزهريون على الأمر بإرسال شكاواهم إلى البرلمان، وكانت الذروة هى خطاب شيخ الأزهر إلى رئيس البرلمان، طالبًا منع الكتاب ومحاكمة صاحبه الذى ينادى بإعمال العقل بما يضاد النقل، كما يدعو إلى الشك فى كل شيء على نحو مطلق إذا لم يجد الحُجج والبراهين التى تؤكد الحقيقة، داعيًا الدارسين إلى أن يتبعوا هذا المنهج حتى فى العلوم الدينية، والتجرد من الانتماء الدينى والقومى فى البحث، مؤكدًا: «أننا يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربى وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وننسى ديننا وكل ما يتصل به، وأننا يجب ألا نتقيد بشىء ولا نُذعن لشىء إلا لمناهج البحث». وعلى هذا الأساس شكَّك فى الأديان، وجحدها إلى درجة القول: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين فى التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى، فضلًا عن إثبات هذه القصة التى تحِّدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون إلى أن نرى فى هذه القصة نوعًا من الحيلة فى إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهود والقرآن والتوراة من جهة أخرى».
وكانت نتيجة الضجة التى أثارها الأزهريون، وتابعهم فيها مَنْ لا خبرة له ولا علم بقواعد العلوم الحديثة، هى عرض الشكاوى على مجلس النواب الذى اختلف أعضاؤه، فانتهى رئيس الحكومة عدلى يكن ورئيس البرلمان سعد زغلول إلى حل وسط، هو تقديم الكتاب إلى النيابة العامة للتحقيق فيه ومع صاحبه. وبالفعل تولى رئيس نيابة مصر العمومية «محمد نور» التحقيق، وانتهى الأمر به فى ضوء دستور 23 - الذى ينص على حرية الاعتقاد والتعبير- إلى أن القصد الجنائى ليس متوافرا فيما نشره طه حسين، وأن كل ما كتبه على سبيل الاجتهاد فى البحث الذى لا عقاب له فى القانون. وعلى هذا الأساس أنهى رئيس نيابة مصر العمومية التحقيق وخرج طه حسين بريئًا، وعاد إلى جامعته التى دافعت عنه خلال هذه الأزمة، كما لم تعاقبه الحكومة فى ظل التزامها بدستور 23. ولذلك أصدر طه حسين فى العام التالى (سنة 1927) طبعة جديدة من كتابه على سبيل التحدى، مزِيدة ومُنقَّحة، حذف منها بعض العبارات التى قد تثير الحساسية الدينية، مدافعًا كل الدفاع عن منهجية البحث العقلانى وضرورته لتقدم الجامعة والمجتمع بوجه عام، ومؤكدًا فى الوقت نفسه المبادئ الخاصة بالحرية والعقلانية واستحالة أن يتطور العلم أو البحث العلمى فى مصر إلا إذا استبعدنا القيود التى نضعها باسم الدين، والدين منها براء، أو باسم المجتمع بما يؤدى إلى تخلف البحث العلمى. فالبحث العلمى لا بد أن يكون حرًّا تمامًا، غير مقيد بقيود العُرف الاجتماعى أو الفهم الدينى الجامد، مؤكدًا أن فى حرية البحث العلمى ما يبعث على التقدم به وبالجامعة نفسها، وذلك على النحو الذى يضعها فى مصاف الجامعات المرموقة فى العالم المتقدم كله. فمصر لن تنهض ثقافيًّا وعلميًّا إلا إذا اتبعت سبل البحث العلمى المستخدمة فى الجامعات الأوروبية الموجودة على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، فالثقافة المصرية الصاعدة والواعدة لا بد أن تكون منتسبة إلى عوالم التقدم لا إلى عوالم التخلف.
3 الإنسانية بأُفقها المفتوح على المستقبل الواعد
وأعتقد أن هذا النوع من الدفاع كان البذرة التى انبثق عنها كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى أملاه طه حسين عام 1938 بعد أن وقَّعت مصر مع بريطانيا التى كانت تحتلها معاهدة 1936 التى أُطلق عليها «معاهدة الشرف والاستقلال» من المتحمسين لها، وأيًّا كان الرأى السياسى فى هذه المعاهدة، فإنها تنص على استقلال مصر وحريتها السياسية وحقها فى التعامل مع غيرها من الدول على أنها دولة مستقلة ذات كيان خاص بها، وأن من حقها دخول عصبة الأمم المتحدة بوصفها دولة مستقلة ذات سيادة، تنتسب انتسابًا أصيلًا إلى أمم العالم المتقدم من ناحية ومرتبطة بالثقافة الإنسانية لهذا العالم فى تطلعه إلى المستقبل الذى يربط الثقافة الوطنية فى مصر بالثقافة الإنسانية للعالم المتقدم على السواء.
ولا يخامر طه حسين شك فى أن الثقافة، كألوان الفنون والإبداع، إنسانية بطبيعتها، ولأنها كذلك فإنَّها ملك لأبناء البشرية جَمعاء يستمتع بها كل أبناء الكوكب الأرضى ما ظلوا قادرين على امتلاك الحد المشترك من المعارف والقيم الإنسانية، التى تعطف الإنسان على الإنسان فى كل زمان ومكان، مهما اختلفت جنسيته أو ديانته. ولكن ليس هناك ما يمنع هذه الثقافة الإنسانية من أن تنطوى على ما نسمِّيه فى زماننا «وحدة التنوع الإنسانى الخلاق»، وهى الوحدة التى لا تتعارض مع كثرة المكوِّنات والاختلاف بينها، ولذلك يمكن أن نتحدث عن خصوصية ثقافية عربية أو خصوصية ثقافية هندية داخل الوحدة القائمة على تنوع ما ينتسب إلى الثقافة الإنسانية على وجه العموم.
صحيح أن فهم طه حسين لمعنى «الإنسانية» بوجه عام ظل فهمًا لا يخلو من آثار نزعة أوروبية مركزية اكتسبها دون أن يدرى بسبب حياته فى فرنسا، وتصوره أن تقدمها، الذى هو الوجه الآخر للتقدم الأوروبى أو الأمريكى، إنما هو المَثل الأعلى لكل ثقافات العالم الثالث، ولذلك كان يفهم «الإنسانية» بمعناها الإيجابى، الذى يجعل منها إنسانية صافية بريئة من الأطماع الإقليمية أو القُطرية. ولهذا لم يضع اعتبارًا كبيرًا لما يمكن أن تنطوى عليه النزعة الإنسانية بمعناها العام والسائد من أطماع قُطرية أو تحالفات إقليمية ذات نزعات استعمارية أو استغلالية تجسدها أطماع الدول الكبرى فى ثروات الدول الصُّغرى، وهو ما ترتب عليه الاستعمار الاستيطانى أولًا colonialism ثم الاستعمار الاقتصادى ثانيًا imperialism، ولذلك نجد أن هناك فارقًا بين كتابات طه حسين الأولى التى لم يكن يرى فيها من الغرب إلا تقدمه المادى والمعنوى اللذين كان يتطلع إلى أن تصل إلى ما يماثلهما الدول العربية، وكتاباته المتأخرة التى جعلته يرى خلف قناع التقدم أشكال الاستعمار المقترن بالاستغلال والتبعية، إلى جانب الأشكال الإيجابية الأخرى، وهى ثنائية جعلته فى النهاية يمايز بين إنسانية عادلة خالصة قائمة على التنوع البشرى الخلاق الذى هو الأصل فى تعاملها مع الآخرين. أعنى التعاون المتبادل والشراكة التى يفيد منها كل الأطراف.
ولم يكن طه حسين جاهلًا بالطبع بمفاسد كِلا الاستعمارينِ الاستيطانى والاقتصادى، فجرائمهما كانت مُدانة فى الآداب التى قرأها والروايات التى عرض لها بالنقد والتحليل، ومنها روايات محمد ديب الجزائرى وروايات كازنتزاكس اليونانى، ومنها رواية «الحرية والموت» التى بهرته فيها شخصية «الكابتن مخالى». ولذلك كان طه حسين يعرف الفارق بين «إنسانية عادلة» وأخرى غير عادلة. وكانت النتيجة تحولات فى نزعته «الإنسانية». أعنى تحولات جعلته لا يتصور النزعة الإنسانية الحقيقية إلا على أنها عادلة، وأنها تتيح الحرية لمن ينتسب إليها بلا تمييز على أساس من العرق كما فعلت النازية، أو من الدين الذى كان أساس الحروب الصليبية، أو نهب ثروات الشعوب تحت أقنعة برّاقة، فالإنسانية الحقة هى الإنسانية التى لا تمايز بين أبناء الكوكب الأرضى، ولا تعرف الاستعلاء أو التمييز بين البشر. ولذلك فهى نزعة وحدة التنوع على أساس احترام حق الاختلاف، والإيمان بالخصوصية التى لا تتناقض والعمومية.
هذه «الإنسانية» فى أفقها العادل هى التى انحاز إليها طه حسين عندما كان يتحدث، مؤكدًا أن الثقافة إنسانية بطبيعتها، وأن إبداعاتها ملك لأبناء البشرية جميعًا، يستمتع بها كل أبناء المعمورة الإنسانية، ما ظلوا قادرين على امتلاك الحد المشترك من المعارف والقيم والمبادئ التى تعطف الإنسان على الإنسان فى كل زمان ومكان مهما اختلفت جنسيته أو ديانته أو حتى انطوت هذه الإنسانية - فى عموميتها على مبدأ التنوع الإنسانى الخلاق بين ثقافات العالم أو على مبدأ الاعتماد المتبادل لمواجهة التحديات أو الكوارث المشتركة. ولكن السمات العامة لهذه النزعة الإنسانية، التى آمن بها طه حسين، لم تمنعه إطلاقًا من أن يرى الأفق مفتوحة لهذه النزعة الإنسانية العادلة القائمة على الخير العام للجميع من ناحية، والخصوصية التى تتميز بها كل ثقافة عن غيرها بما لا يتعارض مع انتسابها إلى ثقافة إنسانية واحدة فى آخر الأمر.
وما يؤكد وحدة التنوع الخلاق فى هذه النزعة الإنسانية هو مبدأ التنوع نفسه، فهذا المبدأ لا يمنع وجود اختلافات بين ثقافة وأخرى فى الانتساب إلى الإنسانية جمعاء. وعلى هذا الأساس يطرح طه حسين السؤال: «هل توجد ثقافة مصرية؟ وما عسى أن تكون فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر». ويبدأ الإجابة بقوله: «إن هناك ثقافة مصرية موجودة ما فى ذلك من شك تقوم على صفات تنفرد بها الثقافة المصرية عن غيرها من الثقافات، وأول ذلك أنها تقوم على وحدتنا الوطنية التى تؤكد أن حقوق المواطنة كاملة مقرونة بشعار «الدين لله والوطن للجميع». وتتصل هذه الثقافة المصرية اتصالًا قويًّا وعميقًا بنفوسنا المصرية الحديثة، ونفوسنا المصرية القديمة، فهى وجودنا المصرى ليس فى ماضيه وحاضره فحسب، بل فى مستقبله فى الوقت نفسه. فهذه الثقافة تدفعنا إلى المستقبل الذى نرجوه لأنفسنا، فتحلم به طليعتنا وتتخيله، وتعمل على إقناع المواطنين بإمكان الوصول إليه».
وبقدر ما تجسِّد الثقافة المصرية وسطية الذوق، وعدم الميل إلى التطرف فى المواقف، فإنها تجسد بالقدر نفسه الاعتدال الذى ينتج من اعتدال الجو والذوق والاستجابة التى لا تخرج عن مدى الوسطية، فضلًا عن اللغة العربية المصرية التى جعلها الذوق المصرى أداة مرنة لا تَنْبو عن الذوق ولا تجافى الطبع، لكنها حتى فى خصوصيتها لا تتضاد ولا تتعارض مع الثقافة الإنسانية فى تنوِّعها الخلاق، الذى يؤكد معانى الخصوصية الوطنية ومعانى العمومية الإنسانية، فكل إبداع من هذا المنظور ينطوى على ما هو خاص بثقافته وما هو عام فى انتسابه إلى الإنسانية. ولذلك كان الأدب الأوروبى يمتع أبناءه فى عواصمه الأوروبية، كما يمتع أبناء غيره من الأقطار والقارات المغايرة. فكل أدب من هذه الناحية ككل أنواع الفن عام وخاص. العام فيه ينتسب إلى الإنسانية جمعاء، والخاص فيه ينتسب إلى القُطر الذى انتجه وميَّزه، بل إن الخصوصية فى مجال الإبداع هى الطريق إلى العمومية، فكلما تعمق الأديب فيما هو خاص بمحليَّته، وصل إلى الجذر المشترك الذى يصله بكل إنسان فى أى زمان ومكان. وهذا هو معنى الإنسانية بأفقها المفتوح على الكون كله، لكن بالمعنى الذى يصل كل قُطر من أقطار المعمورة الإنسانية فى وحدة التنوع الخلاق بين الثقافات والحضارات.
وبقدر ما تجتمع الثقافات والحضارات فى وحدة التنوع الخلاق التى تتكون الإنسانية من أفقها المفتوح، فإن هذا التنوع هو الذى يؤكد الخصوصية التى تكتسبها كل ثقافة، وتمايز بين إبداعها وإبداع غيرها من الثقافات المغايرة، لكن فيما لا ينفى وحدة الإبداع الإنسانى أو حتى وحدة التراث الإنسانى الذى يسهم فى صنعه جميع البشر فى كل زمان ومكان منذ بداية العالم إلى نهايته على السواء. ولولا ذلك ما جعل الله الناس شعوبًا وقبائل تتعارف، ولا أُممًا تتآلف أو يتفق مبدعوها على معانٍ أو قيم متجاوبة فى الذوق الإنسانى والجمالى. ولذلك يقول طه حسين: «ليس ضروريًّا أن تكون رومانيًّا أو يونانيًّا أو فرنسيًّا أو إنجليزيًّا لتجد اللذة الأدبية عند هوميروس أو سفوكليس أو فرجيل أو هوجو أو شكسبير أو جوته، وإنما يكفى أن يكون لك حظ من ثقافة وفهم وذوق، لتقرأ وتلذ وتستمتع». وبالقدر نفسه يؤكد طه حسين أنه ليس ضروريًّا أن تكون عربيًّا أو فارسيًّا لتجد اللذة عند أبى نواس أو الخيام أو أبى العلاء. إن الآداب أشبه بالديانات، تؤثر فى أُمم متعددة، وتصل بين أجناس شتى ومجتمعات مختلفة على أساس من جوهر مشترك، بل إن الديانات نفسها تشبه الآداب فى زاوية هذه الوحدة الواحدة؛ ذلك لأن الجانب الأدبى من الكتب المقدسة يتوجه إلى الناس جميعًا، فيؤثِّر فى الناس جميعًا. هذا البعد الإنسانى هو الذى يجعلنا نستمتع بكل آداب العالم، كما يجعلنا نُدرك أننا بشر ونشارك كل أبناء البشرية فى السراء والضراء، فما يقع عليهم يقع علينا والعكس صحيح بالقدر نفسه.
فمن المؤكد أن الإرهاب الدينى الذى يهددنا لا يختلف عن الإرهاب الدينى الذى يهدد فرنسا وهددها من قبل كما هدد إسبانيا وإنجلترا والولايات المتحدة، ولهذا فهو عدونا من المنظور الوطنى وعدو العالم كله من المنظور الإنسانى، فالعلاقة بيننا وبين دول العالم كله هى علاقة إنسانية فى السراء أو الضراء. وهى علاقة لا تجمعنا فى مواجهة المخاطر المشتركة فحسب، وإنما علاقة تجمع ما بين المظلومين من أبناء الكرة الأرضية فى مواجهة الظالمين من أبنائها فى الوقت نفسه، فالهوية الوطنية لا تتأسس أو تتميز إلا فى علاقتها بغيرها من الهويات التى تتأسس بها إنسانية جديدة بأفق مفتوح على المستقبل العادل الذى يُراعى فيه الجميع الحق والعدل والخير والجمال.
4 العدالة بأوجهها الثلاثة
وهذا فى معنى من معانيه هو العدل الذى تتساوى به الأمم والأفراد، سواء فى الحقوق والواجبات أو فى أشكال الاعتماد المتبادل، التى تفرض على الجميع التعاون فى مواجهة الأخطار والكوارث التى تتعدى قدرات أمة واحدة إلى غيرها من الأمم والأقطار. وهذا هو المعنى الأول للعدل والعدالة، وهو معنى يمكن أن نصِفه بأنه معنى جيوسياسى ينطبق على أبناء المعمورة الإنسانية وترعاه مؤسساتها العالمية سواء فى اليونسكو التى أصدرت كتابها «التنوع البشرى الخلاق» فى يوليو سنة 1995، وقد أشرفتُ على ترجمته والتقديم له فى المجلس الأعلى للثقافة سنة 1997. أو الأمم المتحدة التى أصدرت كتابها «عبور الانقسام»( Crossing the Divide) سنة 2001، بعد كارثة تدمير «القاعدة» بُرجَى التجارة العالمية فى نيويورك.
أما المعنى الثانى للعدالة، فهو معنى اقتصادى فى داخل الأوطان، كل وطن على حدة، فمن المؤكد أن غياب العدالة فى توزيع الثروات الوطنية يؤدى إلى الاحتقان أو التوتر بين الذين يملكون كل شىء والذين لا يملكون أى شيء. ولذلك أهدى طه حسين كتابه «المعذبون فى الأرض» إلى «الذين يجدون ما لا ينفقون.. وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون». فتحدث مؤكدًا أنه يستحيل على أى مجتمع أن يترك المعذبين فى أرض هذا المجتمع على نحو ما هم عليه من جهل وفقر ومرض بلا طعام ولا كساء، حتى بلا سكن أو مأوى، وبلا تعليم فى الوقت نفسه. فحق المواطن الذى تكفله الدساتير هو أن تؤمِّن له الدولة الطعام والغذاء كما تؤمِّن له العلاج والتعليم، والمسكن المناسب الذى يليق بكرامته كإنسان. صحيح أن طه حسين لم يشهد ثورة يناير 2011، التى قام بها أحفاده الذين لم يعرفوا عنه شيئًا، ولكنهم كانوا بمعنى أو آخر متأثِّرين بما كتبه عن العدل الاجتماعى، وضرورة مواجهة «شجرة البؤس» التى كتب عنها روايته الشهيرة بنقيضها من شجر العدل الاجتماعى الذى ينبغى أن يظلل جميع أبناء الوطن.
ولم يكن طه حسين يكتب عن العدل الاجتماعى على نحو رمزى فى أعماله الأدبية فحسب، بل كان يجعل منه عاملًا أساسيًّا فى تفسير التاريخ الإسلامى، فلولا غياب هذا العدل ما كانت «الفتنة الكبرى»، التى أطاحت بعثمان بن عفان الخليفة الذى انحاز إلى أقاربه، فثار عليه الجميع، واستمرت الفتنة فى عهد عليّ وبَنيهِ، وتتبّع طه حسين ثمارها المرة فى كتاب «عليٌّ وبَنوهُ». ولم يخلُ حتى كتابه «مرآة الإسلام» من هذا البُعد، حيث كان العدل الاجتماعى مبدأ أساسيًّا من المبادئ التى لم يَنسَها طه حسين قَط، ورآها مبدأ أصيلا فى الإسلام. ولذلك كان من الطبيعى أن ينادى بمجانية التعليم، وأن يقوم بتنفيذ ما آمن به عندما أتى به الوفد وزيرًا للمعارف العمومية فى حكومة الوفد الأخيرة سنة 1951، وهو مبدأ لم تَنسهُ ثورة 1952عندما قامت بعد شهر ونصف الشهر من قيامها بإعلان قانون الإصلاح الزراعى، ومضت فى إصدار القوانين والقرارات التى تحقق معانى العدل الاجتماعى التى نادى بها طه حسين.
ويبقى البُعد الأخير للعدل وهو البعد الذى نراه فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، خصوصًا عندما يتحدث طه حسين عن أن المعرفة كلها كالماء والهواء، هى حق عام لكل مواطن، وذلك فى سياق يتضام فيه مبدأ العدل الثقافى مع مبدأى العدل الاجتماعى والعدل الإنسانى لكى تصنع جميعًا منظومة ثقافية جديدة، تستهل بها مصر عهدها الجديد بوصفها دولة مستقلة تعد نفسها للمستقبل الواعد بثقافة جديدة تحقق كل أحلامها عن الحرية والعقلانية والعدالة، وذلك كله من منظور التعليم، الذى ينبغى أن يتم تحديثه وعصرنته انطلاقًا من مبادئ الحرية والعقلانية والعدالة والنزعة الإنسانية بأفقها المفتوح الذى لا يعرف الانغلاق على الذات ولا كراهية الآخر أو التمييز ضده.
ومن المؤكد أن كل هذه المبادئ تقودنا إلى المبدأ الخامس والأخير، وهو:
5 مبدأ الهويَّة الوطنية
التى يؤسسها الوطن الحر الذى يخلو من الاستعمار المباشر أو غير المباشر، وتتحقق فيه وعود الحرية والعدالة بكل أوجهها، والعقلانية بكل ما يترتب عليها من اهتمام بالبحث العلمى الحر والمتقدم، وإتاحة حرية البحث الكاملة والمطلقة فى الجامعات التى «دينها العلم»، كما وصفها سعد زغلول بحق، وأخيرا الإيمان بالإنسانية بأفقها المفتوح والعادل. فتلك هى الأُسس التى تتأسس بها الدولة الوطنية الحرة المستقلة، العادلة بين أبنائها التى لا تعرف التمييز بينهم، فكل مواطنيها سواء أمام الدستور أو القانون، فهى دولة مدنية لها دستور يفصل بين سُلطاتها الثلاث ولا يمايز بين المواطنين على أساس من جنس أو دين أو ثروة. فكل المواطنين سواء أمام القانون والدستور، والتمييز بينهم جريمة يحاسب عليها القانون والدستور معًا. هذه الدولة الوطنية التى كان يتطلع إليها طه حسين، والتى جعلته أول من يطلق على حركة الضباط الأحرار فى يوليو 1952 كلمة «ثورة» لأنه رأى فيها وعدًا بتغييرات اجتماعية وسياسية جذرية، سرعان ما تحقق من وجودها وشاهد نتائجها وظل حيًّا إلى أن رأى انتصار أبنائها على عدوهم إسرائيل فى السادس من أكتوبر سنة 1973، فرحل عن عالمنا سعيدًا بانتصار جيشنا الوطنى فى الثامن والعشرين من أكتوبر سنة 1973 فى عامه الثالث والثمانين بعد حياة طويلة كان فيها بمثابة ثورة دائمة، وريادة مستمرة، وإرهاص بكل ما ننعُم به من إيجابيات الدولة المدنية الحديثة التى يتمسك بها المواطنون ورئيس الدولة المنتخب على السواء.
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.