مستورة و «عدلات»: ننتظر حصاد التمر لجمع الزكاة وإنفاق حصيلتها لسداد ديوننا «صابرين شعبان»: وصول التيار الكهربائى يوم «عيد» ولا نجد موردا لمياه الشرب تقى تلقت العلاج بمستشفى الشرطة ووالدها مريض سرطان
قوافل متحركة تجوب القرى والأحياء الأكثر احتياجا بمصاحبة القيادات الأمنية تحت شعار «كلنا واحد» وهى المبادرة التى تستهدف رفع الأعباء عن كاهل المواطنين وتوفر السلع الغذائية ومستلزمات المدارس بأسعار مناسبة عبر المنافذ الثابتة والمتحركة بكافة المحافظات. سميحة ومرزوقة ويمنة وصابرين وتقى ومستورة.. مصريات يعشن فى قرى من أكثر القرى فقرا، ترى وجوههن فى كل مكان تذهب إليه، حفر الزمن أخاديده على ملامحهن، ورسم الفقر خطوطه على جباههن، انحنت ظهورهن، حتى من تعيش فترة المراهقة، ومن تعدت التسعين من عمرها. هؤلاء التقينا بهن خلال زيارتنا لبعض القرى التابعة للواحات البحرية التابعة لمحافظة الجيزة لرصد الواقع الذى يعيشه الأهالى البسطاء الذين اتجهت إليهم قافلة مديرية أمن الجيزة فى إطار مبادرة «كلنا واحد»، حيث حرصت قيادات أمنية على مصاحبة هذه الجولات الميدانية، ولم يكتفوا بتوفير السلع بالأسعار المناسبة فقط بل امتد للسعي فى حل المشاكل التى يعانون منها سواء كانت خاصة بالصحة أو السكن أو المعيشة ولاسيما فى المناطق النائية الأكثر فقرا والبعيدة عن الأضواء أو الاهتمام ورعاية الدولة. فى السطور التالية تابعنا عن قرب ما يحدث هناك فكانت هذه هى الحصيلة. قرية الأطلال الواقع رصدته عدسات كاميرا «الأهرام» خلال زيارتها لعدد من أكثر القرى فقرا ومنها «قرية الحيز» فى الواحات البحرية بمحافظة الجيزة والتى تبعد عن القاهرة ما يزيد علي 450 كم، بطريق الواحات الجديد، والذى ساهم فى تسهيل الرحلة وتقليص زمن الوصول للقرية ل 4ساعات سفر فقط، ورغم تفرد موقعها والقرى السبع بالواحات البحرية بمقومات فريدة، بما تحويه من جمال وجاذبية المكان كمحمية طبيعية فائقة الروعة، وتعد أكثر المناطق الواعدة سياحيا ومزارا طبيعيا لسياحة السفارى لهذه القرى وبالأخص «الحيز» والتى تشعر من الوهلة الأولى لرؤيتك لمعالم القرية والسير فى طرقاتها كأنك داخل إحدى صفحات كتاب تاريخ العصر الحجرى البدائى «قرية الأطلال» فمنازلها أو كهوفها أو «عششها» الوصف الدقيق للواقع الأليم، أغلب هذه المساكن عبارة عن أطلال لجدران من الطوب اللبن لا تحمى من لهيب الشمس أو تقى من برد ورعد الشتاء، كثير منها هجرها ذووها لضيق ذات اليد والفقر الذى مازال رابضا داخلها. فى المدرسة فى مدخل القرية يقع مبنى مدرسة ابتدائى وإعدادى حفزنا صغر حجم مبناها لدخولها، والتقينا بمدير المدرسة. تساءلنا عن أوضاع التعليم والتدريس داخل الفصول، فأوضح مدير المدرسة انه نظرا لانخفاض كثافة الفصول بحيث لا تتراوح كثافة الفصل بين 28 و 35 طالبا، بمرحلتى التعليم الأساسى منها 3 فصول إعدادي، والابتدائى 3 فصول، لصفوف أولى وثانية وخامسة، وهو أمر أثار دهشتنا وتساؤلنا عن باقى صفوف المرحلة الابتدائية، وكانت إجابة المدير الأشد دهشة بأن هذه العملية ترتبط بمدى وجود مواليد فى كل عام من عدمه، والصفوف التى لا ندرسها لم يكن لها مواليد بالقرية فى هذه الأعوام. جدار قديم ومنهار عقب انتهاء زيارتنا للمدرسة وفى مواجهتها تقع المنازل أو على الأصح أطلال المنازل، ومن فتحة صغيرة داخل جدار قديم ومنهار أطلت سيدة مسنة تنظر لمجموعة من بلوكات طوب أبيض أمام منزلها واقتربنا منها لنتحدث معها، حيث ذكرت لنا «سميحة» أنها تبلغ أكثر من 60 عاما، وهى أرملة توفى زوجها منذ سنوات ولم تنجب سوى ابنة واحدة متزوجة من عامل باليومية «موسمي» ولا تتقاضى أى معاش ويعولها شقيقها حسب إمكاناته الضئيلة، حيث يعمل باليومية هو الآخر فى مزارع «النخيل»، وهى الحرفة التى يعتمد عليها سكان القرية بشكل أساسي، وموسم الحصاد هو وقت الرواج لأهالى القرية من أصحاب مزارع وفقراء بما يتلقونه من «زكاة المحصول» لينفق على أبنائه الخمسة وزوجته وشقيقته التى تعيش بمفردها فى المسكن وبين الحين والآخر يزورها شقيقها أو ابنتها، دخلنا معها لمسكنها الذى يتكون من مدخل «حوش» صغير وحجرة لا تزيد على كونها «جحرا» ضيقا سقفه من القش خالية من أى أثاث، تفترش الأرض للنوم عليها، ولكنها برضا وهدوء قالت: أحمد الله أنه رزقنى بمن يحنو على ويغير حالى ويقوم ببنائه من جديد، وانطلقت بالدعاء لمدير أمن الجيزة التى تقول إنها لم تكن تعرف شخصيته، حيث فوجئت برجل يطرق بابها بصحبة شخص آخر وقدم لها كرتونة مليئة بالمواد الغذائية وكذلك لشقيقها. مرزوقة ويمنة وحال الحاجة مرزوقة ليس أوفر حالا من «سميحة» رغم أن لديها ابنا يعمل موظفا بالأوقاف، فمثل تلك الوظائف تعد الأقل دخلا ومعيشيا بالواحات وليس هناك فى مقدرتهم دعم أو مساندة ذويهم، أو التكفل بنفقات تغيير سقف والدته مرزوقة لحمايتها من مطر الشتاء القادم، ولولا زيارة مدير الأمن لمنزلها وتكفله بتسقيف حجرتها لظلت على حالها ومعاناتها ويوجد آخرون مثلها منازلهم فى حاجة لإعادة البناء، تكرر مشهد بلوكات الطوب الأبيض أمام العديد من المنازل المهدمة ومازال يعيش فيها أصحابها معظمهم من كبار السن والسيدات، ويبدو أن زيارة مدير أمن الجيزة كانت ذات أثر طيب على حال كثير من فقراء ومعدمى هذه القرية الأقرب لمشاهد القري في أفلام سينما الخمسينيات هو الأمر اللافت بشدة فى القرية، فما تكاد تطل على باب منزل إلا وتجد سيدة طاعنة فى السن تجلس بمدخل مسكنها بمفردها لا حول لها ولا قوة وهذا كان حال الحاجة يمنة كما ذكرت لنا وتبلغ من العمر 90 عاما وتعيش بمفردها رغم ضعف بصرها ووهن صحتها مع أن لديها 6 من الأبناء الذكور وأربع بنات لا يعاونها أو يرافقها أحد منهم، ولا تتلقى منهم سوى زيارات خاطفة، حسب قولها وأن أصعب لحظاتها رعبا فى الليل عندما يقفز الفأر فوقها من سقيفة القش بمدخل البيت، والذى تحبذ المبيت فيه لتكون بقرب الباب, وأضافت أنها تعول نفسها بالكاد بما تتقاضاه من معاش التضامن الاجتماعى «300 جنيه»، خاصة أنها تحتاج أدوية. وما إن تركنا يمنة فور خروجنا من باب منزلها فوجئنا بفتاة عشرينية تستوقفنا متسائلة : هل ممكن أن أسجل معكم شكوى وتنقلوها للمسئولين؟ قالت إن اسمها «صابرين شعبان» حاصلة على دبلوم فني صحي، تساءلت : من فى إمكانه تحمل المعيشة الصعبة التى نحياها فى قريتنا؟ إننا نفتقد المياه و الكهرباء، فوصول التيار الكهربائى بمثابة العيد لنا، وبدونه نفتقد معنى الحياة مع انقطاع التيار لأكثر من 19 ساعة يوميا ولا نجد موردا لمياه الشرب، خاصة بعد توقف الطاقة عن بئر المياه منذ شهرين ولجلب المياه نضطر للسفر للواحات. قرية القصر وغادرنا قرية الحيز إلى قرية القصر على بعد مسافة 30 كم والتى تعد أفضل وأوفر حظا من سابقتها رغم ما تحويه من محدودى الدخل وفقراء، وهذه القرية نالت نوعا آخر من الدعم من خلال مبادرة «كلنا واحد» إضافة للدعم العينى بالمواد الغذائية، أو النقدى أو الصحي، حيث تم حصر الفتيات المقبلات على الزواج من غير القادرات وتم تجهيزهن بالأجهزة الكهربائية. سمير و«تقي» وفى جولة فى طرقات قرية القصر والتى تتميز بكثرة أشجار النخيل وتناثره بجانبى الطرق راسما لوحة فنية طبيعية من صنع الخالق عز وجل فائقة الجمال، ووسط هذه اللحظات المتناغمة والفاصلة لمشاهد البؤس التى عايشناها فى قرية الحيز، قفز إلينا مشهد آخر لطفلة فى منتهى الجمال «تقي» وهى تحاول أن تسابق أقرانها من الأطفال فى الركض لعبا بالشارع ولكن قدمها لا تمكنها بقوة مثل الآخرين، اكتشفت أن ذلك بسبب بتر جزء كبير من مشط القدم، فى مشهد يرجف القلوب حتى «القاسية»، واقتربنا منها ودون أن تتوجس منا ألقت نفسها بين ذراعي وهنا ظهر والدها سمير والذى يجسد مأساة فى حد ذاته، حيث يبلغ من العمر 61 عاما ومتزوج ولديه ثلاثة أبناء، وكان يعمل بالمحارة حتى أصابه المرض اللعين فى فكه السفلى منذ عامين واضطر حينها للتوقف عن العمل وتوجه فى بداية المرض لقصر العينى بالقاهرة نظرا لما يعانيه من آلام وصديد مستمر فى فمه، بالإضافة إلى تعرضه للإصابة بفتاء ولعدم مقدرته على تحمل نفقات السفر أو العلاج توقفت مراحل العلاج وفقد قدرته على العمل، ولم يجد مساندة سوى من زوجته التى طالبته بالراحة والسماح لها بالخروج للعمل فى البيوت وفى مصنع البلح وفى موسم الحصاد، ومع هذا لم يتمكن سمير من رؤية زوجته تتحمل المسئولية وحدها فأخذ يعمل فى جمع علب المثلجات لبيعها. من وجع المشهد توقفت الكلمات على لسانى ولم أجد مفرا إلا بإعادة نظرى إلى «تقي» وسألتها : أين ماما فردت بصوت خافت : فى الشغل وتعود بعد الرابعة عصرا كل يوم، طلبت منها أن تروى لى سبب إصابة قدمها «بتر»، فقالت لي كنت مع ماما فى المصنع وأثناء خروجنا دهست السيارة قدمي، وهنا تدخل والدها فى الحديث وقال إن السائق والسيارة التى أصابتها من أهل القرية ونعرفه وكذلك المحامى الذى وكلته بالقضية وللأسف تخاذل فى الدفاع وفوجئت بعد ثلاث سنوات بقيد القضية «ضد مجهول» وضياع حق ابنتى حتى فى علاجها، ولولا تدخل مدير الأمن بمساعدتها أثناء زيارته للقرية، والذى طلبنى واستمع لمشاكلى وأبلغنى بتبنى حالتى الصحية وتم إرسال التحاليل للمستشفى وأنتظر النتيجة لتلقى العلاج بمستشفى الشرطة كما وعدني، وسافرنا للقاهرة وحجزوا لنا إقامة بفندق طوال مدة العلاج وتم تركيب جهاز تعويضى لها تستخدمه أثناء خروجها للمدرسة حسب تعليمات الطبيب حتى لا تصاب قدمها بالتعفن، وهنا سألت تقى « هل تتمكنين من ارتدائه بنفسك فقبل أن تجيب أمسكت بالجهاز ترتديه. أفضل الايجابيات التقينا مع جار سمير، اسمه عبد الهادى محمد عبد الحليم، قال : «من أفضل الايجابيات زيارة مدير الأمن بحد ذاتها، فهى بمثابة حلم بالنسبة لسكان مناطق نائية يعيشون فى الجبل، وشعورهم باهتمام قيادات الدولة بأحوالهم يبعث فينا الروح من جديد وذلك بخلاف الإعانات العينية أو النقدية، والتى قام بتوزيعها بنفسه وفق توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسي، والتى أبلغنا بأن الرئيس أرسلها لدعمنا بها هذا بجانب الرعاية الصحية والتى نفتقدها فى القرية منذ سنوات، ولاسيما الحالات الحرجة والعمليات والأمراض الصعبة والمزمنة. مند يشة وبعد قرية القصر توجهنا لقرية منديشة كآخر قرى جولتنا بالواحات والتى تقارب قرية القصر فى المستوى الاجتماعى وتضم أيضا كثيرا من أسر محدودى الدخل والفقراء لما يزيد علي 700 حالة أغلبهم من السيدات المطلقات والأرامل، والعاجزات، أو اللاتى هجرهن أزواجهن لإنجابهن البنات والاستقرار مع الزوجة أم البنين، ومن الحالات المؤثرة فى نفوسنا عدلات عبد المجيد عمرها تجاوز 70 عاما، وضعف بصرها وسمعها، ونظرا لزواج بناتها فى قرى أخرى فإنها تعيش بمفردها ببيت قديم متهالك وسقفه من الحطب وليس لها مصدر دخل أو عائد مادى وتعيش على الصدقة ولا تحصل حتى على معاش التضامن الاجتماعي،، فى المنزل الملاصق ل«عدلات» منزل «مستورة» وهى مطلقة ولديها ثلاث بنات وولدان يعملان باليومية بصورة متقطعة نظرا لانعدام فرص العمل فى المنطقة والتي تقتصر على فترة حصد البلح ومصانعه الموسمية والتى تمثل موسم الرواج للفقراء قبل الأغنياء، بحيث يقومون ببيع حصة البلح التى تمنح لهم كزكاة وسداد ديونهم منها والتعايش منها لفترة، وبعدها يعيشون جدب الحياة. أسس اختيار القرى ما كان يهمنا فى جولتنا هو معرفة: أسس اختيار القرى التى تجوبها قوافلها وطريقة المساعدة التى يتلقاها الأهالي، ومدى تغطيتها لحد الكفاف، وكيفية استمرارها مع وتيرة الإصلاحات بالغة الأهمية التى تنفذها الحكومة لاستعادة استقرار الاقتصاد القومى والتى تتطلب «التضحية» ولاسيما أن ثمارها تستغرق فترة ليست بالقصيرة حتى يلمس المواطن نتائجها، وهو الأمر الذي تستوعبه القيادة السياسية وتقدم دعما قويا وفعالا بعبر عن الإحساس بمشاكل المجتمع ومعايشة أزماته لحظة بلحظة والتفاعل معها للتخفيف من وطأة التداعيات السلبية عن المواطنين. العدالة الإقليمية وفى الختام نؤكد أنه وللإنصاف والأمانة ووفقا لمعطيات الواقع الذى عايشناه فى هذه الجولة وغيرها من جولات «تحقيقات الأهرام» المتوالية خلال عشرات السنوات الماضية فإن الفقراء هم فئة ليست وليدة هذا العصر أو ناتج تطبيق إجراءات الإصلاح الراهن، ولكنهم إرث أوضاع تاريخية وثقافية وسياسية واجتماعية متعاقبة افتقدت خلالها آليات الدولة لمواجهة الفقر أو تقليص نطاقه، فقضية العدالة الإقليمية ترتبط بشكل وثيق بسياسات الإصلاح، ورفع مؤشر معدل النمو ليس كافيا لانتشال الفقراء ومحدودي الدخل، فهم بحاجة لنمو يساهم في إزالة أسباب الفقر وليس مجرد تخفيف أعبائه بتوفير السلع الأساسية بأسعار ميسرة، ومن الضرورى منح سكان المناطق النائية والحدودية والصعيد الفقيرة أولوية مشروعات وبرامج التنمية، مما يخفف من وطأة مشكلات قائمة تؤكدها مؤشرات التنمية البشرية .