هل ما زال فى مصر طبقة أو نخبة من المثقفين الحقيقيين؟ أم أن هناك قليلا من المثقفين الحقيقيين مهمشين، والهيمنة الكاملة على المشهد لمجموعة من الشُطّار الذين يتخذون الثقافة سبوبة؟ سؤال قد يكون مشروعا، لا تجاوز فيه، وقد يرى فيه البعض أنه خروج عن النص، أو أنه ظلم وتجن على الواقع الجميل... وأيا كان الموقف من هذا السؤال فمن حق أى إنسان أن يثير مثل هذه الأسئلة فى ظل حالة الفوضى القيمية، والأخلاقية، والعبثية الثقافية والفنية، بينما المثقفون مشغولون بمعارك جانبية عن التاريخ والتراث؛ غايتها خدمة الأنا المتضخمة، الممتلئة بالفراغ، والحفاظ على النجومية والظهور، وإثارة الانتباه، حتى ولو بتفجير قضايا خرافية، أو هامشية تشغل الجماهير عن مشكلاتها الحقيقية، وتشتت انتباهها؛ يتحقق فيها ما تحققه حروب نشر للشائعات، والتسميم الثقافى المنظم، وإرباك الرأى العام، وخلق حالة من البلبلة تحول دون توحيد الجهود صوب مشروع وطنى جامع، يحقق النهوض الحضارى المنشود. المثقف هو إنسان يملك من الدراية، والوعى ما يجعله حاملا لهموم مجتمعه، منشغلا بإصلاحه، وتطويره، والارتقاء به، هو قائد للجماهير فى مكانه وزمانه، يعلمها ويبث فيها الوعى الإيجابى بواقعها، وبالتحديات التى تواجهها، ويرشدها إلى طرق الخلاص من الأزمات، ومسالك الرقى والتقدم فى مضمار الحضارة، هذا المعنى للمثقف قدمه للعالم الغربى المفكر الماركسى الإيطالى أنطونيو غرامشى، المتوفى 1937م؛ فيما أطلق عليه المثقف العضوى الملتحم بالجماهير البسيطة، الذى يعبر عن آلامها وأحلامها، وقبله قدمه للعرب عالم اللغة جمال الدين بن منظور الإفريقى صاحب لسان العرب، توفى 1311م، حين عرف الإنسان المثقف فقال الثقف ، أى المثقف، هو إنسان فطن ثابت المعرفة بما يحتاج إليه. أى أن المثقف هو الذى يعرف ما يحتاج إليه فى زمانه، ومكانه، وهذه المعرفة لابد أن تكون ثابتةً راسخةً. هذا المعنى للمثقف أصبح فى مصر حدثا تاريخيا، كان أيام كانت هناك ثقافة، وكان للدولة دور، وكان لوزارة الثقافة قيادات مثل ثروت عكاشة رحمه الله، كان المثقف رائدا وقائدا للجماهير، كان يفنى عمره لتنوير عقولها، وتمهيد طريق نهوضها، وتقدمها ورقيها، أما مثقفو عصر الانفتاح وما بعده، فقد أصبحوا تجار شنطة, يبيعون هواياتهم فى سوق الثقافة، التى صارت لها سوق بجوار وكالة البلح، تباع فيها مواهب متوسطة، وإنتاج عقلى يتناسب مع منتجيه، ومستهلكيه، تراجعت الثقافة بنفس مستوى تراجع المجتمع والدولة المصرية على كل المستويات، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم من ارتباك، وفوضى ثقافية عارمة، لا تتناسب مع موقع مصر، ولا مكانة مصر، أصبح المثقفون الحاملون للجنسية المصرية يأتون فى الصفوف المتأخرة فى العالم العربى، ناهيك عن العالم. ثم تدهور الحال أكثر وأصبح كثير من المثقفين يقومون بدور هدّام فى المجتمع، ومربك للدولة، يثيرون من الأزمات أكثر مما يقدمون من الحلول، أصبح دورهم تشتيت المجتمع، وإرباك مؤسسات الدولة، فقط لأن الواحد منهم خطرت على رأسه الصغير فكرة، فحولها إلى تصريح صحفى، تتلقفه صحافة البوم والغربان، وتنفخ فيه حتى يصل كل أطراف المجتمع، فيربك الناس، ويثير الخلافات، ويفجر المشكلات، ويضاعف التشققات والشروخ الاجتماعية التى توشك أن تؤدى إلى تفكك وانهيار البناء الاجتماعى المصرى، وقد سهل الأمر على هؤلاء توافر وسائط التواصل الاجتماعى التى تمكن الواحد منهم من تحريك بر مصر وهو جالس فى الحمام. وبحس الفهلوى البهلوان أدرك المثقف المفلس أن الدين هو المجال المفتوح للجميع؛ ومعه الجنس والسياسة، وأنه فى نفس الوقت حقل ألغام كبير، ما أن تلقى فيه بحجر؛ حتى تدوى الانفجارات فى كل مكان، فصار المشهد الثقافى المصرى غارقا فى قضايا الغيب، والتاريخ، والخلافات الدينية، وأصبح أشهر المثقفين يخصصون برامج على الفضائيات لمناقشة قضايا دينية لم يتبحروا فيها، ولم يتعمقوا ليصلوا الى مستوى إثارة السؤال، فتأتى حواراتهم سطحية استفزازية، تقدم خدمات مجانية للجماعات الإرهابية، لأنهم يقدمون لها مبررات لتجنيد الشباب وحشدهم للدفاع عن الدين ضد من يريدون هدمه. وكذلك أدرك المثقف المفلس أن الجرأة فى تناول القضايا التى كانت تخفيها مظلة العيب والأخلاق، هو أسهل الطرق للحصول على صفة الثورية والتحرر، والتمرد على المجتمع الرجعى المظلم، فانطلقت الأعمال الفنية الشهوانية الغرائزية لتملأ الفضاء الثقافى المصري؛ فى صورة أفلام ومسلسلات وبرامج، وكأن المصريين قد تخلصوا من كل أزمات حياتهم، ولم يبق لديهم إلا إشباع شهواتهم. وثالثة الأثافى أن صارت المعارضة للمعارضة مهنة قطاع من المثقفين المفلسين، المهم أن تثبت أن النظام فاشل، وأن كل ما يفعله كارثة، وأننا داخلون فى نفق اسود لا نهاية له، ولا ضوء فى آخره، وأنه لا أمل، ولا عمل ولا سبيل للبقاء، أو النجاة مما نحن فيه، فتحول المثقفون الى غربان تبشر بالخراب؛ بدلا من أن يكونوا حاملى الشموع لإنارة طريق المستقبل. والنتيجة الطبيعية لإفلاس المثقفين وشطارتهم، كارثة على الدولة والمجتمع، لن ينقذنا منها إلا عملية مراجعة شاملة للمشهد الثقافى المصري؛ تقوم بها واحدة من المؤسسات الكبرى فى مصر، تكون نتيجتها إطلاق مشروع ثقافى يعيد لمصر مكانها ومكانتها. لمزيد من مقالات ◀ د. نصر محمد عارف