خلق الله الإنسان ليعبده. هذه حقيقة نزلت بها كل الأديان السماوية، وحتى من رفضوا هذه الحقيقة عبدوه بأشكال أخرى رصدها علم مقارنة الأديان. فى رحلة الإنسان لله تلك يمر فى حياته على الأرض بصراع عنيف بين الحلم الذى يريد أن يحققه والواقع الذى يترصده؛ فغالبا ما يصدم الإنسان بلطمات كبرى فى حياته تقف له بالمرصاد دون تحقيق الحلم، فتتعثر روحه ويتوه فى هوة سحيقة بين الروح التى تتوق لتحقيق الحلم والواقع الذى يكسرها، هنا يأتى دور الفن ليصالح الإنسان على واقعه ويأخذه لمنحى آخر من الحلم بالكلمة الداعمة له: بالشعر، أو الرواية أو القصة القصيرة أوغيرها من أشكال الكتابة، أو الموسيقى أو اللون عن طريق الفن التشكيلي، أو الدراما أو حتى سوشيال ميديا، أو أوبرا وباليه، ومن يقرأ كتاب تاريخ الجنون لميشيل فوكو الفيلسوف والمؤرخ الفرنسى المتوفى فى 1984 فسيجد أن الكتاب ليس تاريخا فحسب بل رحلة طويلة فى ذاكرة العسف والإقصاء والهمجية الإنسانية، لمجرد أن الذين أصيبوا بالجنون خرجوا عن قانون المجتمع الذى يتسم بالوسطية. فهو يتحدث عبر الكتاب عن سفينة الحمقى التى كانت تحمل المجانين لتبحر بهم فى محاولة لإقصائهم لاتقاء خطرهم المهدد للمجتمع. ربما هذه الرحلة نفسها عبر البحر تعيد للمجنون عقله كما يقول فوكو. ونسى المجتمع وهو يقصى هؤلاء المجانين السبب فى بعض أمراض هذا الجنون الذى نتج عن الهوة السحيقة بين تحقيق الحلم والواقع الذى يحاول من أشرف على الجنون تغييره حتى يصل لمرحلة اليأس المؤدية به إلى الجنون لامحالة. حينئذ ينبذه المجتمع ويتهمه بالجنون لأنه لم يستسلم لقانونه الوسطى الذى قد يحمل فى طياته متناقضاته كالظلم الاجتماعى المخرب للنفس البشرية. من الطبيعى أن ينتج لنا كل هذا مجتمعا مشوها لا يعرف لمن ينتمي: للوسطية الظالمة، أم للخروج على المألوف لتحقيق العدالة الاجتماعية. قد يسلمه هذا إلى ضرب من الجنون لأنه سباحة ضد التيار. إن الأمر كله يتعلق بفعل ثقافى وثيق الصلة بحالة المجتمع الحضارية؛ إذ يستند المجتمع فى الحكم على المجنون إلى الفكر المعرفى الذى أفرزه عبر رحلة طويلة من المعتقدات والأديان وممارسة الحياة. إنه النظام القيمى المستند إلى كل صياغات الفكر الممكنة، فهو القاضى الذى يحاكم الأفراد السابحين ضده باستمرار. لقد مر العالم بانهيارات متتالية للأنظمة التى حكمته، بدأها بتقديس الملَكية وفرض هالة قدسية سماوية تنزه أصحابها فيها عن كل نقيصة يقوم بها المحكومون من وجهة نظرهم. ثم مالبث العالم أن تمرد فى بعض أجزائه على الملَكية عندما استشعر الظلم الاجتماعي؛ ليندفع إلى الاشتراكية والتغنى بها؛ ثم نبذها لأنها لم تحقق ما سعى إليه من عدالة، فاتجه بقوة من جديد إلى الرأسمالية التى خيبت آماله. ولجأت بعض الشعوب إلى الإسلام السياسى الذى لم يستطع أن يصمد أيضا أمام حالة القمع الإنسانى الذى مُورس ضد أفراد المجتمع، فرفضه البشر واستهجنوه.. أدى هذا كله بالعالم إلى فقدان الثقة فيما تقيمه الدول من نظم جعلت الأفراد فى حالة أشبه بانعدام الوزن. هنا يأتى دور الفن بكل أشكاله؛ فهو حلقة الوصل المفقودة التى تطهر النفس، وتحفزها على العمل للعبادة استعادة للتوازن القيمي، وهو العلاج الناجع الذى يحقق للإنسان تقريب الفجوة بين الحلم والواقع الذى يسعى إلى تغييره. وهو ناقوس العدالة الذى ينبه الحكام دائما ويدفعهم إلى النزول على رغبات الشعوب. لمزيد من مقالات شيرين العدوى