من أعماق الجنوب جاء وتحديدا من مركز جهينة بمحافظة سوهاج، على مقربة من الموضع الذى خرج منه ملوك الجنوب الاوائل ليوحدوا مصر فى وحدة سياسية وضعت البلاد على طريق الحضارة والمدنية، قدس المصريون هذه الأرض الطيبة وقصدوها للحج وبنوا بها المعابد، كان هذا مسقط رأس جمال الغيطانى اما النشأة فكانت بين جنبات القاهرة القديمة التى أسست عالم الغيطانى الخاص فأينما يولى وجهه فثمة مئذنة، قبة، مدخل مسجد، لوحة خط، زخارف، لوحة متكاملة عناصرها آفاق قاهرية وأزمنة انقضت وبقى أثرها الملموس فى عمائر تدل على من مروا بهذه المدينة العتيقة كما تركت آثارًا غير مرئية يصعب إدراكها بالعين المجردة أو الوعى الإنسانى، لكنها تدرك بالحس لمن كان له قلب. من خلال هذه الثنائية المتمثلة فى الجنوب حيث مصر القديمة بتاريخها العريق، والقاهرة الساحرة بطبقات تاريخها الذى جاوز الألف عام تكون عالم الغيطانى وتبلور مشروعه الذى اجتهد أن يقدم فيه رؤيته للواقع المصرى عبر أسلوب مميز عاد فيه بلغته وتراكيب جمله الى التاريخ وذاكرة مصر الشعبية، وقد كان للحقبة المملوكية دور بارز فى إثراء أدب الغيطانى فقد استشف من اطلاعه على تاريخ هذه المرحلة الثرية ما يمكن أن نسميه وحدة التجربة الانسانية فالظلم والفساد وتزييف الوعى كانت عوامل أودت بدولة المماليك وهو ما يتشابه والظرف السياسى والاجتماعى زمن كتابة مجموعات قصصية مثل «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» و « اتحاف الزمن بحكاية جلبى السلطان» وبعدها حول أديبنا التاريخ الذى جرى الى كائن حى محسوس يقول لنا إن اسباب هزيمة القرن السادس عشر لا تختلف كثيرًا عن اسباب هزيمة القرن العشرين، ومشروع الغيطانى فى استدعاء التاريخ لا يقل أهمية عن مشروع نجيب محفوظ الذى كتب عدة روايات مستوحاة من تاريخ مصر القديم مثل كفاح طيبة ورادوبيس محاولًا استنهاض الهمم وبعث روح مصر من ماضيها وتذكير المصريين بتاريخهم القديم المجيد الذى كاد أن ينسى، وباختلاف الزمان والظرف التاريخى اختلفت زاوية الغيطانى فى أدبه الذى يرتكز على تاريخ يحاول من خلاله قطع مسافة طويلة من الذاكرة الى الضمير المصرى والإحساس بالمسئولية تجاه ما يعانيه الوطن والناس، وكما حاور الغيطانى التاريخ واستنطقه اقترب من العمارة الاسلامية وهو العاشق للقاهرة القديمة وتاريخها وتراثها المعمارى والانسانى فقدم رؤية وقراءة مختلفة لآثار القاهرة الاسلامية وتاريخها الذى شهد تقلبات لا تحصى، اقترب جمال من عمائر المماليك والعثمانيين والفاطميين وقدم قراءته الخاصة التى بلورها عبر سنوات من التأمل والاكتشاف فتحولت العمارة الصامتة على يديه الى كائنات تفصح وتبوح بأسرارها ورسائل الحنين المضمنة فى ثناياها، فكانت النتيجة قراءة جديدة وشائقة لعمارة القاهرة الاسلامية ينصت اليها وتنساب الى روحه كل من قرأ وسمع بها، لأنها تجاوزت السرد الاكاديمى الجاف الذى يصف الحجارة وصفا ماديا مباشرا فجاءت قراءة الغيطانى لتحول الساكن الى متحرك يحكى ويصمت ويظهر ويحتجب ويبكى ويضحك فنجده فى كتاباته المهمة قاهريات مملوكية و ملامح القاهرة فى ألف عام يقدم جولة تاريخية ومعرفية وإنسانية تربط الخاص بالعام والحاضر بالماضى وفى أثناء سرده يؤكد على التواصل الحضارى بين مصر القديمة ومصر الاسلامية تواصل فى الفكر والبناء وإن اختلف المعتقد وتغيرت السنون، وتبرز فلسفة الغيطانى الصوفية فى استنطاق الآثار فيتلمس الرموز الكونية العليا والبعد الانسانى ويوازن بين الرمزية والتجريد والبعد الاجتماعى والانسانى للعمران، واليوم تمر الذكرى على رحيل الغيطانى بجسده ويبقى مشروعه الثقافى ماثلا فى الوجدان ومؤثرا فى اجيال عشقت آثار وتاريخ مصر على يديه ويصدق فى سيرة جمال ما قاله حكيم مصر القديمة بتاح حتب «إن صوت الناس يفنى لكن صوت الكاتب يبقى أبد الدهر». .......................................... باحث فى الآثار المصرية